رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة البحث عن رأس الحسين من كربلاء إلى القاهرة

الحسين
الحسين

لعلك تتفق معى فى أن اجتزاز رأس الحسين فى «كربلاء» على يد عبيد الله بن زياد شكّل واحدة من أكبر المآسى التى شهدها تاريخ الصراع على الحكم بين المسلمين، ومثّل نقطة فاصلة فى سجل العلاقة بين أنصار فكرة «الإمامة فى بيت محمد» وغيرهم من المسلمين الذين رأوا أن الخلافة يصح أن ينهض بها أى مسلم تتحقق فيه الشروط المطلوبة للقيام بعبئها. لم يكن استشهاد «الحسين» هينًا على من ذبحوه من أنصار يزيد بن معاوية ومؤيدى الحكم الأموى، وإذا كانت «كربلاء» قد تسببت فى ميلاد «عقدة ذنب» لدى أنصار آل البيت، فقد ولَّدت فى المقابل ما يمكن أن نسميه «عقدة لوم» لدى الفريق الآخر من المسلمين الذين اجتهدوا فى تخطئة موقف الحسين، حين خرج على يزيد - المتغلب بالسيف - دون حسابات سياسية دقيقة، لكنهم فى الوقت نفسه أبوا قبول أى عذر فى ذبح حفيد النبى وأهل بيته صلى الله عليه وسلم.
منذ استشهاده فى كربلاء وثمة سعى من جانب المتشيعين لبيت النبوة إلى أمرين، أولهما «الثأر للحسين»، وثانيهما البحث عن الرأس الشريف الذى اجتزه جنود عبيد الله بن زياد بلا رحمة ليطوفوا به فى أنحاء الكوفة، ليبعثوا به بعد ذلك إلى دمشق، مقر حكم الخليفة الأموى «يزيد». ومن دمشق خاض الرأس الشريف رحلة انتقل فيها إلى عسقلان ثم إلى قاهرة المعز، حيث استقر فى مكانه الحالى - إلى جوار المسجد الأزهر ــ فى المشهد الذى تطلق عليه كتب التراث «تاج الحسين». إنها ثنائية المحنة والرحلة التى بدأت فى العاشر من محرم عام ٦١ هـ، وما زالت تداعياتها وانحيازاتها، وحكاويها وأقاصيها تتفاعل على أرض الواقع حتى اليوم.




لعبت هاشم بالملك.. فلا خبر جاء ولا وحى نزل
مثلت معركة الإمام الحسين فى كربلاء واحدة من كبريات الصرخات التى دوت احتجاجًا على ظلم بنى أمية، وبحثًا عن الدولة الديانة، ولم يكن هناك من هو أكثر أهلية من سبط النبى لاستعادة هذه الدولة. صرخة نبيلة صرخها الشهيد الثائر غاب عنها حقيقة أن للسياسة ومواجهاتها حسابات أخرى. وذلك هو الخطأ الذى يرى أهل السنة أن «الحسين» وقع فيه، حين خرج على «يزيد» وهو يعلم أنه مقتول لا محالة، وبالغ المؤرخون فى سرد القصص والحكايات الدقيقة وغير الدقيقة التى تثبت أن الكثير من كبار أبناء الصحابة نهوا «الحسين» عن الخروج، لكن أمر الله كان قدرًا مقدورًا. يقول ابن تيمية: «الحسين رضى الله عنه قتل مظلومًا شهيدًا، وقتلَته ظالمون متعدون، وإن كان بعض الناس يقول: إنه قتل بحق، ويحتج بقول النبى صلى الله عليه وسلم: «من جاءكم وأمركم على رجل واحد؛ يريد أن يفرق بين جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان». فزعم هؤلاء أن الحسين أتى الأمة وهم مجتمعون؛ فأراد أن يفرق الأمة، فوجب قتله، وهذا كذب وجهل؛ فإن الحسين رضى الله عنه لم يقتل حتى أقام الحجة على من قتله، وطلب أن يذهب إلى يزيد، أو يرجع إلى المدينة، أو يذهب إلى الثغر، وهذا لو طلبه آحاد الناس لوجبت إجابته، فكيف لا تجب إجابة الحسين رضى الله عنه إلى ذلك».
وجد «الحسين» نفسه وحيدًا فى مواجهة جيش عبيد الله بن زياد بن أبيه بـ«كربلاء»، لكن الأخير لم يرحمه، ولم يكتف جنوده بقتل حفيد النبى صلى الله عليه وسلم، بل اجتزوا رأسه أيضًا وأرسلوه إلى حيث يحكم يزيد بن معاوية ثانى خلفاء الدولة الأموية بالشام. اختلف الرواة والحكاءون فيما يتعلق بموقف يزيد عندما جىء إليه برأس الحسين، فهناك من يقول إنه أخذ يعبث فى ثغره الشريف بقضيب فى يده وينشد «لعبت هاشم بالملك.. فلا خبر جاء ولا وحى نزل»، وهناك من يذهب إلى أن يزيد بكى عندما رأى الرأس الشريف وقال: «لو كان بين ابن زياد ــ قاتل الحسين ــ وبينه رحم ما فعل هذا». وواقع الحال أن كلا الخبرين يمكن نفيهما بضمير مستريح، فقد كان يزيد مؤمنًا بالله ورسوله، ولم يكن من الحمق بحيث يردد مثل هذا القول، وفى الوقت نفسه حدوتة بكائه لا تتناغم مع موقفه الشرس من الحسين حين علم بخروجه عليه ومنابذته له فى الحكم. المنافسة بين الطرفين كانت سياسية فى المقام الأول، بغض النظر عن محاولات الشيعة القدح فى شخص يزيد، عبر الحديث عن تشكيكه فى الدين، ومحاولات السنة الدفاع عنه وتبيان أنه انتحب على الحسين حين رأى رأسه.
اختلفت الروايات حول مكان دفن رأس الحسين. فمن المؤرخين من يذهب إلى أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة فدفنه عند أمه (السيدة فاطمة رضى الله عنها) بالبقيع، وهناك من يقول إن الرأس ظل فى خزائن «يزيد» حتى تم دفنه بدمشق بمنطقة «باب الفراديس». والحديث عن احتفاظ «يزيد» بالرأس لا يتسق مع العقل، والأرجح أنه تم دفنه مباشرة بالمسجد الذى عرف فيما بعد بمسجد الرأس. ويقول «ابن كثير» فى «البداية والنهاية»: «وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا الديار المصرية قبل سنة أربعمائة إلى ما بعد سنة ستين وستمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور به بمصر، الذى يقال له تاج الحسين بعد سنة خمسمائة. وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف وهم فى ذلك كذبة خونة». ولست أظن أن «ابن كثير» محق فيما ذهب إليه، لأن من المعلوم أن الفاطميين سيطروا على الشام والحجاز، وكان من الطبيعى أن ينبشوا القبر الشريف وينقلوا رأس الحسين إلى مركز حكمهم بالقاهرة. أما تشكيك «ابن كثير» فى مسألة نقل رأس الحسين إلى مصر من زاوية أن الفاطميين ادعوا ذلك حتى يروجوا ــ زورًا ــ لنسبهم إلى البيت النبوى فقد تكفل «ابن خلدون» بالرد عليه فى مقدمته، حين أثبت بما لا يدع مجالًا للشك نسب الفاطميين إلى «إسماعيل بن جعفر». دعنا ننتقل الآن إلى ما حكاه المقريزى فى «خططه» حول نقل الرأس الشريف إلى القاهرة.



خيوط المحنة بدأت بشعار: «يا لثارات الحسين»
مثلما كانت مذبحة كربلاء نقطة فاصلة فى تشكل تيار التشيّع، مثلت ثورة «المختار بن أبى عبيد» لحظة فارقة فى تاريخ رحلة الثأر لدم سبط النبى، تحت شعار «يا لثارات الحسين». قام «المختار» بهذه المهمة تحت غطاء شرعى من محمد بن على بن أبى طالب (محمد بن الحنفية). وكان يقول للناس: «جئتكم من عند المهدى محمد بن الحنفية وزيرًا أمينًا». وضع «المختار» واحدة من أهم القواعد التى تحكم أداء أحفاد الحسين فى منابذة أحفاد يزيد، قاعدة «عدو عدوى صديقى». كان «بنو أمية» أعداءه الألداء، فسعى إلى التحالف مع أعدائهم حتى لو كانوا على غير هواه الشيعى، فى هذا السياق اجتهد طالب ثأر الحسين فى التحالف مع عبد الله بن الزبير، وحقق بعض النجاح فى ذلك. استطاع «المختار» أيضًا حشد الكثير من الأتباع والأشياع ليخوض بهم معركة «الثأر للحسين». ومع زيادة عدد أشياع وأتباع «المختار»، كان من الطبيعى أن يبدأ أمره فى التكشف والظهور، خصوصًا أن شرطة بنى أمية كانت تعمل بكامل قوتها.
عزم «المختار» على الخروج لطلب الأخذ بثأر الحسين، فاجتمعت عليه الشيعة وثبطوه وطلبوا منه التأجيل إلى وقت آخر، ثم أرسلوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه، فلما اجتمعوا به، كان ملخص ما قاله: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوى أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبى عبيد وتوحد تحت رايته الفرقاء من المطالبين بالثأر لدم الحسين. تمتع «المختار» بمواهب خاصة للغاية فى الخطابة وبلاغة القول، وقد استخدم هذه المواهب فى إقناع من حوله وتغييبهم، ودفعهم إلى طاعته، ولم يتوان عن أن يعلن غير ما يبطن فى مواقف عديدة، ليضع بذلك واحدًا من أهم المبادئ التى تحكم الفلسفتين الدينية والسياسية للشيعة، وهو مبدأ «التَقِيَّة» التى تبرر للشيعى أن يظهر للآخرين غير ما يبطن حتى يدرأ الخطر عن نفسه. شرع «المختار» فى تتبع قتلة الحسين من شريف ووضيع فيقتله. وهرب أشراف الكوفة إلى البصرة، وكان ممن هرب بسبب استهدافه «شمر بن ذى الجوشن» قاتل الحسين، فبعث المختار فى أثره غلامًا يقال له «زرنب»، فلما دنا منه قال «شمر» لأصحابه: تقدموا وذرونى وراءكم بصفة أنكم هربتم وتركتمونى، حتى يطمع فىّ هذا العلج، فسبقوا وتأخر شمر، فأدركه «زرنب» فعطف عليه «شمر» فدق ظهره فقتله». وكان مقتل «شمر» بداية النهاية لكل من ساهم فى قتل الحسين بن على، وبداية النهاية أيضًا للرجل الذى خرج يطلب الثأر من قتلته: «المختار بن أبى عبيد الله»!.
أخذ «المختار» يتتبع من فى الكوفة من قتلة الحسين وكان أتباعه يأتون بهم حتى يوقفوا بين يديه فيأمر بقتلهم على أنواع من القتلات مما يناسب ما فعلوا، ومنهم من حرقه بالنار، ومنهم من قطع أطرافه وتركه حتى مات، ومنهم من يرمى بالنبال حتى يموت، فأتوه بمالك بن بشر، فقال له المختار: أنت الذى نزعت برنس الحسين عنه؟، فقال: خرجنا ونحن كارهون فامنن علينا، فقال: اقطعوا يديه ورجليه ففعلوا به ذلك، ثم تركوه يضطرب حتى مات، وقتل عبدالله بن أسيد الجهنى وغيره شر قتلة، ثم قتل خولى بن يزيد الأصبحى الذى اجتز رأس الحسين، وعمر بن سعد بن أبى وقاص أمير الذين قتلوا الحسين، ثم كتب «المختار» كتابًا إلى محمد بن الحنفية قال فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم.. إلى محمد بن على من المختار بن أبى عبيد، سلام عليك أيها المهدى، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بعثنى نقمة على أعدائكم، فهم بين قتيل وأسير وطريد وشريد. فالحمد لله الذى قتل قاتلكم ونصر مؤازركم، وقد بعثت إليك برأس عمر بن سعد وابنه، وقد قتلنا ممن اشترك فى دم الحسين وأهل بيته كل من قدرنا عليه، ولن يعجز الله من بقى».
عند هذه المرحلة بدأ الخليفة الأموى «عبدالملك بن مروان» يشعر بخطر «المختار»، فأرسل إليه جيشًا من الشام على رأسه عبيدالله بن زياد، فسيّر «المختار» إليه أصحابه بقيادة «ابن الأشتر»، وخرج معه يودعه فى وجوه أصحابه ومعهم كرسى «المختار» على بغل أشهب ليستنصروا به على الأعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون، واستمر أصحاب الكرسى سائرين مع ابن الأشتر، فجعل الأخير يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بنى إسرائيل والذى نفسى بيده إذ عكفوا على عجلهم فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسى. نفر «ابن الأشتر» من «كرسى المختار» وشبهه بالعجل الذى عبده بنو إسرائيل. ويحكى «ابن كثير» حكاية عجيبة عن هذا الكرسى، يقول فيها إن «المختار» خطب الناس فقال: «إنه لم يكن فى الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن فى هذه الأمة مثله، وإنه قد كان فى بنى إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله ــ يقصد الكرسى الذى يجلس عليه ــ ثم أمر فكشف عنه أثوابه فكبر الناس ثلاثًا، فقام شبث بن ربعى فأنكر على الناس، وكاد يكفّر من يصنع ذلك، وأشار بأن يكسر هذا الكرسى ويخرج من المسجد. فلما قيل هذا عبيدالله بن زياد قد أقبل وبعث المختار ابن الأشتر، أرسل معه بالكرسى يحمل على بغل أشهب قد غشى بأثواب الحرير عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة، فلما تواجهوا مع الشاميين وقتلوا «ابن زياد» ازداد تعظيمهم لهذا الكرسى، حتى بلغوا به الكفر.
وجاءت نهاية المختار على يد مصعب بن الزبير، الذى سار بجيش كبير إلى الكوفة، حيث لقيتهم الكتائب المختارية فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيرًا حتى هربوا، وقتل منهم جماعة من الأمراء، وخلق من القراء، وطائفة كثيرة من الشيعة. وحوصر «المختار» داخل قصره، ومنعوا عنه الغذاء والماء، وكان «المختار» يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر، ولما اشتد عليه الحصار، قال لأصحابه: إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفًا، فانزلوا بنا نقاتل حتى نموت كرامًا، فقال: أما فوالله لا أعطى بيدى، ثم اغتسل وتطيب وتحنط، وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.



الاستقرار فى العاصمة بعد زحف الفرنج نحو الشام
يذكر «المقريزى» فى خططه أن رأس الحسين كان مدفونًا بعسقلان، وأن الفضل فى نقله إلى القاهرة يعود إلى الأفضل الجمالى ابن أمير الجيوش بدر الجمالى. «فى سنة ٤٩١ هـ وفى شهر شعبان خرج الأفضل بعساكر جمة ــ كما يصف المقريزى ــ إلى بيت المقدس، وكان عليها عساكر كثيرة من الأتراك، رفضوا التسليم له، فقاتلهم قتالًا شديدًا ونصب المجانيق وهدم جانبًا من المدينة فلم يجد حكامها بدًا من الاستسلام له، فملك القدس ودخل عسقلان، وكان بها مكان دارس فيه رأس الحسين بن على رضى الله عنهما فأخرجه وعطّره وعمّر المشهد. فلما تكامل حمل الأفضل الرأس الشريف على صدره وسعى به ماشيًا إلى حيث أحله فى مقره، وقيل إن المشهد بعسقلان بناه أمير الجيوش بدر الجمالى، وكمله ولده الأفضل. وكان حمل الرأس إلى القاهرة من عسقلان ووصوله إليها فى يوم الأحد الثامن من جمادى الآخرة سنة ثمانى وأربعين وخمسمائة». يشير «المقريزى» عبر هذا النص إلى أن الرأس الشريف كان مدفونًا بعسقلان، وهو أمر وارد، فى سياق ما يقرره العديد من الروايات التاريخية من أن رأس الحسين حُمل إلى يزيد فى الشام، وأن الأخير قام بدفنه حيث يحكم. والظاهر أن أمير الجيوش بدر الجمالى وزير المستنصر هو من أقام المشهد بعسقلان، وأن الأفضل أكمل ما بدأه أبوه.
يقرر المقريزى أن نقل الرأس إلى القاهرة تولى أمره طلائع بن رزيك المنعوت بالصالح وكان قد قصد نقل الرأس الشريف إلى مصر لما خاف عليه من الفرنج وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به ويفوز بهذا الفخار، فغلبه أهل القصر على ذلك، وقالوا لا يكون ذلك إلا عندنا، فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه له ونقلوا الرخام إليه وذلك فى خلافة الفائز على يد الصالح «طلائع» وذلك سنة تسع وأربعين وخمسمائة. وبذلك يكون الرأس قد وصل إلى مصر فى الثامن من جمادى الآخرة سنة ٥٤٨ هـ، وتم بناء المشهد الحسينى الحالى بالقاهرة عام ٥٤٩ هـ. كان من الطبيعى أن يسعى الحكم الشيعى الفاطمى إلى جلب الرأس الشريف إلى مصر، وكان من البديهى أن يرحب المصريون بالخطوة كل الترحيب. فمحبة أهل هذا البلد لأهل البيت معلومة بالضرورة.
ويخطئ البعض حين يتصور أن التشيّع فى مصر اقترن بحكم الفاطميين، فقد كان سابقًا عليهم. وقد حكيت لك كيف ظهر بين المصريين أيام الفتنة الكبرى فريقان، فريق انحاز إلى على بن أبى طالب أطلق عليه «العلوية»، وفريق انحاز إلى معاوية أطلق عليه «العثمانية». وطبقًا لما يذكره «المقريزى» فى خططه كان التشيّع موجودًا فى مصر أيام الإخشيدية والكافورية ــ أى قبل دخول الفاطميين مصر ــ ويحكى فى هذا السياق أن «مصر لم تكن تخلو من الشيعة أيام الإخشيدية والكافورية فى يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة، وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة، وتتعلق السودان فى الطرقات بالناس ويقولون للناس من خالك، فإذا قال معاوية أكرموه، وإن سكت لقى المكروه وأخذت ثيابه وما معه».
فى كل الأحوال يمكن القول إن الشيعة مثلوا أقلية فى مصر أيام الإخشيديين، لكن أوضاعهم اختلفت وتباينت خلال فترة الحكم الفاطمى، التى امتدت إلى ما يزيد على قرنين من الزمان، وخلال هذه الفترة ترسخت الاحتفالات بذكرى موالد آل البيت، وذكرى استشهاد الحسين يوم عاشوراء، وانضم إلى هذه الاحتفالات بعد وصول الرأس الشريف لسبط النبى الاحتفال بيوم وصوله. ومن عجب أنك تجد أن بعض الطقوس التى كانت تشهدها مصر فى هذه الاحتفاليات أيام الفاطميين ما زالت شاخصة وماثلة فى الواقع حتى يوم الناس هذا، فكانت تدق الخيام، ويمتد سماط الطعام داخل كل خيمة لإطعام المحتفلين أو الذين أتوا للتبرك بالشهيد صاحب الذكرى. يكفى أن نستشهد فى هذا السياق بخبز الشعير الذى كان ــ ولم يزل ــ وجبة أساسية من الوجبات التى تقدم فى «خدمات» الاحتفال بموالد أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم.
المصرى فى كل مراحل تاريخه لا يتخلى عن طقوسه وتقاليده.