رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صبرى موسى.. المعروف المجهول




رحل صبرى موسى عن عالمنا، معروفًا ومجهولًا بعد أن أصبح الناس يعرفون أسماء الأدباء فحسب دون أن يقرأوا لهم عملًا، مثلما يعرفون اسم سيد درويش من غير أن يسمعوا له نغمة، وهم فى ذلك فى حالة أقرب إلى العلاقة بالأهرامات التى يعلمون أنها قائمة ويقدرونها لكن من بعيد.
ولا أذكر من الذى قال إن الكاتب لا يبحث عن الإعجاب لكن عن الفهم. لهذا أعرض هنا أهم أعمال صبرى موسى رواية «فساد الأمكنة» التى جلبت له الشهرة ورسخت قدميه فى عالم الأدب. بداية يعد صبرى موسى من جيل يوسف إدريس، الفارق فى تاريخ الميلاد بينهما خمسة أعوام، وهو الفارق ذاته بين صدور مجموعة «أرخص ليالى» لإدريس عام ١٩٥٣، وصدور «القميص» أولى مجموعات صبرى موسى عام ١٩٥٨.
لكن إبداع موسى المختلف نوعيًا، وضعه فى مصاف جيل الستينيات المجدد فى الأشكال القصصية والروائية. وقد أصدر موسى عدة مجموعات قصصية لم تلفت النظر إليها، ربما لأن عمله بالصحافة ترك أثره فى طريقة كتابتها. فى عام ١٩٦٢ نشر موسى روايته القصيرة «حادث النصف متر»، فأثارت الانتباه بتحررها من قواعد الرواية الكلاسيكية التى بسط نجيب محفوظ ظلها الكبير على الجميع. فى «حادث النصف متر» تتضح بدقة رؤية الكاتب التى قامت عليها روايته الشهيرة «فساد الأمكنة»، وذلك حين يحكى بطل النصف متر، أن عثمان باشا كتخدا اغتصب فلاحة صغيرة رآها فى بستانه، وأن أحد جنود الحملة الفرنسية اغتصب أيضًا فلاحة أخرى فى إحدى القرى، ويعقب الراوى على ذلك بقوله: «هذا الاغتصاب المزدوج الذى وقع فى أخريات القرن ١٨ أثر إلى حد كبير على تكوينى الشخصى».
ويؤكد معنى «تضافر الاغتصاب» وقسوته، حين يشير إلى أن حفيد الباشا من المغتصبة الأولى ذهب ليتزوج حفيدة الجندى الفرنسى من المغتصبة الثانية. هذا الاغتصاب المزدوج الذى يصب فى بعضه البعض، يصبح أهم خيوط روايته «فساد الأمكنة» التى صدرت بعد نحو عشرة أعوام فى ١٩٧٣. فكرة التضافر الوثيق بين الغزو الخارجى والاستغلال المحلى التى لمعت للحظة فى «حادث النصف متر»، أمست قلب الرواية الأهم «فساد الأمكنة» التى تغطى فترة تمتد من أيام الملكية حتى الستينيات من القرن الماضى. وفى العمل سنرى شخصية «نيكولا» القوقازى الأصل، الذى عاش فى إيطاليا ثم تركها، وجاء إلى الصحراء الشرقية فى مصر قرب حدود السودان، حيث جبل الدرهيب بحثًا عن الثروة واستخلاص الذهب وبحثًا أيضًا عن حلمه بالفردوس المفقود. إنه خليط من الطمع فى ثروات المنطقة والأحلام أو حتى الأوهام. لذلك يرى «نيكولا» فى منامه أنه يضاجع ابنته التى تحمل نفس اسم زوجته «إيليا». ويشعر بالذنب أو بالأحرى بالجريمة. إن الغريب الذى يحلم بأنه سيعمر الصحراء لا يجلب معه سوى الخطيئة. أما فى الداخل فإن صبرى موسى، يعرى فساده وخرابه حين يقوم الملك بزيارة إلى المنطقة ويشتهى «إيليا» ابنة «نيكولا» الصغيرة، ويستدرجها له أحد قواديه، فتركب بجوار الملك فى سيارته إلى خيمة حيث يغتصبها الملك وتحمل منه. ويصاب «نيكولا» بلوثة جنون، لأنه لا يدرى إن كانت علاقته بإيليا ابنته كانت مجرد حلم أم أنها تمت فى الواقع، ومن ثم فإنه لا يدرى إن كان هو أباها والد الطفل الذى أنجبته أم الملك؟ ومن ثم يلقى بالطفل طعامًا للوحوش فى الصحراء وهو يردد لنفسه أن ابنته جعلته «أبًا وجدًا فى وقت واحد»!.. خلال تلك الأحداث تتبين لنا عادات وثقافة البدو الذين يسكنون الصحراء والذين يشتبكون فى علاقات مع «نيكولا» خلال البحث عن الذهب والثروات الأخرى.
وقد كانت الرواية جديدة ومفاجئة فى حينها، فقد وضع صبرى موسى يده على مادة أدبية جديدة على الأدب المصرى، أعنى عالم الصحراء الذى لم يكن قد تطرق إليه أحد، حتى اعتبر البعض أن الرواية رائدة الأدب العربى إلى مجاهل الصحراء. أيضًا سنرى أن الرواية مشبعة بفانتازيا تحطم الطريقة الواقعية فى الكتابة، مثل المشهد الذى ضاجع فيه عبدالله كريشاب عروس بحر فى حضور رموز السلطة اللاهية السكرى. أما الأهم فهو الشخصية المحورية فى الرواية، أعنى «نيكولا» الذى يقدمه موسى إلينا بصفته باحثًا عن فردوس مبهم، أو جمال مطلق، أو خير عميم، لكن مأساته أنه لم يجلب سوى الخراب، متواطئًا مع الاستغلال الداخلى والملك والحاشية. ما الذى أراد صبرى موسى أن يقوله؟ هل أراد أن يقول إن كل مزاعم الاستعمار عن تعمير وتطوير الشعوب التى جاء بها انتهت إلى خراب؟ أم أراد أن يقدم شخصية أدبية جديدة على ضوء شخصية «زوربا اليونانى» التى أضاءت سماء الأدب بقوة حينذاك؟، وهل لذلك السبب تبدو الرواية أحيانًا كأنما مكتوبة للسينما؟. فى كل الأحوال كانت «فساد الأمكنة» عملًا جديدًا ولافتًا بكل ما يحمله من إطلاق الخيال والبحث عن زاوية جديدة لرؤية العالم. وقد فصلت بين «حادث النصف متر» وصدور «فساد الأمكنة» عشرة أعوام، ثم احتاج الكاتب عشرة أعوام أخرى ليصدر فى ١٩٨٢روايته الثالثة «السيد من حقل السبانخ» وفيها يلمع مجددًا بقوة كاتب الخيالات الجميلة صبرى موسى حتى عدّها البعض أول رواية خيال علمى فى الأدب العربى.