رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبد الوهاب داود يكتب: صبري موسى.. أحزان الذي اقترب


صباحٌ ثقيل، لا تعرفُ مَصدرَ أحزانه التى تضغطُ بقوةٍ على القلبِ الضعيف.. هنا فى وسط القاهرة كنتُ، بينما النبأ هناك عند منتصفِ شارع الهرم.. هناك، حيث توقف قلب الأب، والأستاذ، والصديق، والمعلم صبرى موسى، فمن أخبر القلب فى غفوته بموسم الأحزان؟ ومن فتح سرادق العزاء؟ وماذا يفعل الطفلُ البائس فى وداع من أخذ بيده فى طرقات الحياة المظلمةِ، وعلمه الأسماء كلها؟.

لم أعرف بتوقف القلب الذى طالما كنت أجد فى ثناياه المفر والملاذ، إلا بعد أن عرف به الخلق أجمعين، وبعد أن ملأت الدموعُ أعينَ من لم تمنحهم الحياة ما منحتنى من هِبةِ الجلوس بالقرب منه، والالتصاق به سنواتٍ وسنوات، هبةِ التعلم منه، والافتتان بمحبته للحياة والبشر أجمعين، هبةِ الاستمتاع بالكتابةِ المبدعة، والاحتفالِ بالمواهب مهما كانت صغيرة، وقبول امتحانات الحياة، والتعامل معها بما يليق بها من تجاهلٍ ولا مبالاةٍ، وتجاوزٍ عن كل ما ينغص صفو محبته لها.


قضيت 5 سنوات فى ظلال أبوته.. ورفضه مهاجمة على سالم وراء اتهامه بـ«التطبيع» فى «العربى الناصرى»

جئتهُ صبيا، لا يعرف عن الدنيا إلا أقل القليل، يختبئ من مشاكله الصغيرة، قرويا يجهلُ ماذا يمكن أن يفعل فى مواجهة القاهرة بصخبها، وعنفها، فأخذ بيدى إلى مفاتنها، وفتح لى أبوابها المستعصية على الغرباء، وكشف لى أسرار جمالها، ورسم لى الطريق إلى قلبها.. رسم لى الطريق إلى قلبه هو، ومنه إلى قلب الحياة، وقلوب الناس فى بلدنا، الفقيرة إلى المحبة، والفقيرة إلى الرفقة، والجائعة إلى الونس.

خمس سنوات، أو أكثر بقليل، عشتها كاملة، فى ظلال الأب والكاتب الكبير، الذى لم تفارقه ابتسامة الترحيب، منذ يومى الأول معه بجريدة «العربى الناصرى»، فى مارس 1993 التى كان يشرف على صفحتى الثقافة والفن بها.

صحبنى إليه واحد من قيادات الحزب وقتها، وقدمنى إليه كشاعر، ومحب، وراغب فى التعاون معه، فلم يسألنى عن مؤهلات دراسية، أو خلفيات اجتماعية، أو سياسية، فقط سألنى عما يمكن أن أقدمه للصحيفة، وما أعرفه عن فنون الكتابة الصحفية، وما لدى من أفكار لموضوعات، ليفتح لى بعدها خزائن أسرار المهنة، التى طالما حلمت بالالتحاق بقطارها.

لم يبخل بمعلومة، على واحد من أفراد القسم، وكانوا أكثر من الهم على القلب، كنا ٣٤ محررا، لصفحتين أسبوعيتين عن الفن والثقافة، وكان هو مَن يستمعُ إلينا جميعًا، ويفتح قلبه، وحافظة نقوده، لنا جميعًا.

كنا، جميعًا، نتنافس على القرب من «الأستاذ»، وربما كان منا من يحلم بالاستحواذ على قلبه، لكننى كنت أقلهم حظًا من «الدهاء الناصرى»، المحظوظُ بالقربِ، والجلوس، والاستماعِ، والاستمتاع، المحظوظُ بكنوز الحكايات، وفتنة المحبة التى لا تحدها سماء، والطيبة الآسرة، والتعفف بلا ظِلالٍ لأسى

ربما كان يغضبُ من فتنةِ الكُتاب والنقاد برائعته «فساد الأمكنة»، وعدم التفاتهم لروايته الأكثر بهاء «السيد من حقل السبانخ»، لكن وجهه كان يشرق بابتسامةٍ راضية حين أحدثه عن «حادث النصف متر»، أو مجموعته القصصية «حكايات صبرى موسى» التى لم تكن ترد على لسانه كثيرا، لكنها لم تكن لتغيب عن خاطرى حتى لحظتى هذه.

ربما آلمته حملة الهجوم، التى شنها ضده بعض محررى القسم، منتصف العام ١٩٩٤، واتهامهم له بالتطبيع، أو بمساندة المطبعين، لمجرد أنه لم يستل قلمه، أو لم يمرر مقالات لهم، ولم يسهم فى حملة قتل الكاتب المسرحى الراحل على سالم، بعد زيارته الأولى لإسرائيل. ربما آلمه لجوؤهم إلى جمع التوقيعات لتقديمها إلى المؤتمر العام للحزب، والمطالبة بإبعاده عن «العربى»، لكنه رغم فشل الحملة، واتضاح تفاصيلها كاملة أمام الجميع، لم يزد فى التعليق على الأمر عن وصفه بحالة طيش وتمرد لشبابٍ غاضب، لا تستدعى التنكيل بهم، أو حتى استبعادهم من القسم.

وقتها كنت أعرف أنها لم تكن سوى مؤامرة صغيرة، دبرها صغار، لا يعنيهم «التطبيع» من عدمه، ولا يشغلهم على سالم أو غيره، ولا هدف لهم سوى أن يخلو لهم الطريق إلى كشف التعيينات بالجريدة، فقد شاءت الظروف أننى كنت أقيم فى شقة مفروشة مع عدد من أطراف المؤامرة. وكان لابد لى، بحكم السكن، أن أطلع على طرف من كواليسها، بل مورست ضدى ضغوط للانضمام إلى حملة جمع التوقيعات، لكنها لم تجد معى، فحلت مكانها الإغراءات التى لم تفلح أيضًا، ولم يكن أمامى سوى أن أنتقل إلى سكنٍ جديد، لأحكى له فيما بعد عن كواليس ما جرى، فتعلو وجهه ابتسامة يغلبها الأسى، ويضحك مما آلت إليه الأمور، دون حتى أن يلومنى لأننى لم أشِ له بهم وقتها.

التونة والجبن والبصل دليل محبته لأبنائه

كنا ٣٤ محررًا، وكنا ٨ محظوظين بالالتفاف حوله على مائدة «التونة والجبن والبصل الأخضر»، التى يأمر بإعدادها حين يستشعر جوعنا، وحاجتنا إلى قِسطٍ من الراحة، والحنان.

كنا ثمانية، ولم يكن، لنا، مجرد رئيسٍ للقسم الذى نعمل به، بل هو من هو، بالاسمِ، والرسمِ، والروح التى تحتوينا.. بل هو من هو، الملاذُ، والملجأ الذى نحتمى به من قسوة الحياة، وتجهمها فى وجوهنا، نحن الصغار الذين لم تنبت لنا أظافر نرفعها فى وجه من يريدون استبعادنا، لمجرد أننا أدركنا منذ اللحظة الأولى معنى الجلوس بالقرب من صبرى موسى.

كنا أربعة وثلاثين، وكنا ثمانية، لكنه، حين يأتى وقت العمل، لم يكن ليفضل واحدا منا على الآخر، كانت الأفضلية للمادة التى تصلح للنشر، والتى تلتزم بفنون المهنة المعروفة، إلا أن الأمر لم يكن يسلم من بعض المنغصات، خصوصا من أعضاء الحزب الناصرى المالك للصحيفة، الذين كانوا يرون فى أنفسهم مُلاكا لها، وعليه أن ينشر ما تجود به قريحتهم، حتى ولو لم تكن لها أى صلة بالمهنة التى يريدون الالتحاق بنقابة العاملين بها، لم يكن هو مِمَن يستجيبون لأى ضغوط، أو وساطات. إن جاءوا بأخبار أو تقارير، أو حتى حوارات، فأهلا وسهلا، أما ما كانوا يلقون به من مقالات، فلم يكن لها مكان فى الصفحات، التى يشرف عليها، حتى بدأوا فى شن حرب ضروس ضده، بحجة الاختلاف فى الرؤية، ووقتها اخترت الانحياز لمن أعرف من هو، وما قيمته.

وقتها حدثت واقعة طريفة، ربما سبق أن حكيت طرفًا منها، فبدون مقدمات بدأ أفراد فريق «الاختلاف فى الرؤية» يرتدون النظارات، بمعدلات لافتة للنظر، فلم يبق من فريق القسم ممَن لا يرتدون النظارات سوى نحن الثمانية المحظوظين بالقرب منه. وفى ليلة كنا نعد فيها لرسم صفحتى الفن والثقافة، وكنت أنا وهو وحدنا، عندما جاء أحدهم يسأل ما إذا كنا أخذنا مقاله أم لا، وكان يعدل نظارته بمعدلات متسارعة، وهو يحكى عن رؤيته للعرض المسرحى، الذى كتب عنه، ورؤية المخرج، والمؤلف، والتى يجب أن نساندها باعتبارها متسقة مع رؤية الحزب. وإذا بالأستاذ يسألنى، فى إحدى مرات السخرية، التى كانت سلاحه فى مواجهة كوميديا الحياة: «هو إيه حكاية النضارات دى؟! ما تجيب لك واحدة يا عبدالوهاب، أحسن تكون دى نضارات الرؤية.. خلينا نعرف رؤية الولاد دول إيه».

أنباء مرضه حرمتنى من رؤيته.. وترتيبات القدر أعادت الروح لـ«الابن العاق»


ربما استمرت رحلة عملى بالقرب منه لخمس سنوات فقط، لكنها خمس سنوات أنبتت لى أجنحة، ظلت تساعدنى على التحليق فوق مصاعب الحياة ما بقى لى من العمر.. تعلمت فيها معنى الرقص مع الحياة، والتجاوز عن صغائرها، والسخرية من مقالبها.. منحتنى السلاح الذى مكننى من العيش حرًا، لا يغريه شىء، ولا يقهره شىء، فهكذا كان، وهكذا ستظل ذكراه فى قلبى.

خمس سنوات تعلمت فيها معنى الخبر، وأصول الكتابة، وعرفت خلالها، كيف تكون الكتابة الأدبية، وكيف تكون الرواية مصرية خالصة، بقدر ما تغوص فى مرارة الواقع، بقدر ما تعالجه بمسحة من السخرية، وخفة الروح، وقراءة لعمق ما تخلفه الأيام على الوجوه، والأرواح.

خمس سنوات من الحكايات، والأسرار والتفاصيل، التى تبقى، وإن طالت الأيام، وبعدت المسافات، فقط لأنها كانت خمس سنوات عشت فيها فتنة الجلوس بالقرب من صبرى موسى، فظلت معى بعد مغادرته للجريدة، ومغادرتى لها.

لم تفارقنى ابتسامة الرضا المطبوعة فوق وجهه وكأنها لن تغادر، وعندما أبعدتنى تفاصيل الحياة ومعاركها الصغيرة عنه، عاشت معى تعذبنى، وتتهمنى بالعقوق، والعصيان، حتى كانت زيارتى الأخيرة له، التى مر عليها الآن ما يقرب من عام، لكنها كانت بمثابة عودة الروح لى، أو قل كانت هى ليلة استعادة القلب الذى شوهته المدينة والأيام.

كان ذلك منتصف شهر رمضان، وكنت أخشى طوال الوقت من رؤيته مريضًا.. كنت أقرأ عن حالته الصحية، وأتابعها عبر كل ما يمكننى الوصول إليه من مصادر، لكننى لم أكن أجرؤ على رؤيته وقد هده المرض، لم أكن أحتمل مجرد التفكير فى مرضه. سنوات طويلة وأنا أحاول التهرب من مواجهة حقيقة أن الوجه العذب ربما تنال من وسامته التجاعيد، أو تجرؤ على الزحف إليه. سنوات طويلة تعذبنى فيها حقيقة أننى أنا الولد العاق، الذى يتهرب من تقبيل اليد التى أقامت ظهره، وجعلت منه بشرًا سويًا.

سنوات طويلة وأنا أختلق الأعذار، حتى لعبت الأقدار لعبتها، وكان لابد من المثول بين يديه، والعودة إلى حضنه الذى طالما افتقدته، فقد طلب منى الدكتور هيثم الحاج على، رئيس الهيئة العامة للكتاب، تنسيق عملية إعادة طبع الهيئة لإحدى رواياته، لكنه لم يكن يعلم أنه يفتح جرحًا طالما ضغطت آلامه القلب، وبابًا للفرح طالما تمنيت الدخول منه.

فأما الألم فمبعثه قسوة الأيام التى دفعتنى فى نهر الحياة بعيدًا عن أعين الأستاذ الذى تعلمت الحياة بالقرب منه، وعلى يديه بدأت خطواتى فى مهنة البحث عن المتاعب، وتعلمت متعة الحفاظ على أصول الكتابة، والقراءة، والرقص مع الحياة، والاحتفال بها. وأما باب الفرح، فهو العودة إلى رحاب الأب، الذى علمنا السحر، والاحتفال بمنجزه الأدبى، الذى وعد الدكتور هيثم الحاج على، ببدء الترتيب له، فور الاتفاق على طبع الرواية، والبدء فى رسم بورتريه شخصى للكاتب الكبير، تتزين به قاعات ومنافذ وطرقات الهيئة إلى جوار نخبة من كبار أدباء مصر الذين تزهو بهم على العالمين. لم أتردد فى الاتصال بزوجته الزميلة الصحفية أنس الوجود رضوان، ولم تكن الزيارة ضمن مخططاتى، فلم يكن دورى يزيد على التنسيق والاحتفال، والمتابعة، وكانت أخبار المرض تؤذينى وتبعدنى، لكن المفاجأة التى لم أحسب حسابها كانت فى انتظارى، وكانت ترتب لى أن أستعيد قلبى الذى غلفت جدرانه القسوة، وأجهدته مخافة الضعف، والبكاء بين يدى من أحب. شاءت الأقدار أن يكون هو إلى جوارها، لحظة استقبالها لمكالمتى الهاتفية، وأن يسألها عن الطالب، ويطلب منها أن تعطيه الهاتف عندما أخبرته أنه أنا.. نفس الصوت، ونفس الضحكة التى طالما أسعدتنى، ونفس خفة الروح التى طالما بثت البهجة فى نفوس المحيطين بها.


روحه المرحة لم تفارقه رغم المرض.. وذكريات الضحك والبكاء هيمنت على لقائنا الأخير
لم يطل حديثنا الهاتفى، لكنه لم ينته إلا بوعدٍ منى بزيارته عقب أذان المغرب مباشرة، كنا بعد العصر بقليل، فلم أستطع الانتظار، ولم يتوقف وجهى عن الابتسام، تمامًا كما حدث عندما علمت بخبر الحمل بطفلتى الأولى، ولم يزد نصيبى من وجبة الإفطار التى طلبتها أكثر من بضع لقيمات، فقد كان لدى موعد آخر، مع وجبة أخرى للروح، طالما تمنيتها، وهربت منها، وسعيت إليها.. حشدٌ من التناقضات لاحقت ساعتى، واحتشدت بها، فرحٌ وقلق، وبهجة وحزن، وترقب ورهبة.
كانت ملامح وجهه تكسوها التجاعيد، لكن الابتسامة لم تفارقه، وظل هو صاحب الوجه الصبوح، والروح المحلقة، حكى لى عن مغامراته العاطفية فى رأس البر، صبيًا، وشابًا، وعن عشته بها، وحدثنى عن أيامنا فى «العربى»، وأشرق وجهه بالضحك عندما ذكرته بقصة «نظارات الرؤية»، قال لى عمن زاروه فى مرضه، ولم يلق بالًا لمن لم يسألوا.

قلبنا معًا فى أرشيف مقالاته القديمة بمجلة «صباح الخير»، وقرأت له بعضًا منها، تلك التى كانت عناوينها تخطف العين، وتجبرها على المتابعة، وهمس لى بكلماتٍ لم يكن يريد أن تسمعها «أنس»، عن امتنانه لوجودها معه، واحتمالها لنوبات غضبه، ومرضه، وعن سعادته بالأوقات التى تزورهم فيها «هاجر» ابنة «أنس»، وابنتها. حدثنى عن شغفه بالرسم، والكلمات، وأيامه مع يحيى حقى، وما أضافه من روحه هو، إلى قصة «البوسطجى» أثناء كتابته سيناريو الفيلم الشهير عنها.

حدثنى عن أدب الرحلات الذى شق بعصاه درب الكتابة فيه، وغاص معه فى عمق الوجوه والأسماء، وقرأ الأحجار والرمال، والبحيرات، ونحت منها جميعًا، مسيرة لم يسبقه إليها أحد، وسار على هديها كثيرون من بعده، ومعه، ليظل هو صبرى موسى، الفرد، المتفرد فى عذوبته، فى الفن كما فى الحياة. وحدثته عنه، عن أستاذى الذى كنت واحدا من المحظوظين بالحياة بالقرب منه، وفى ظله، وكنت أكثر المحظوظين باستراق النظر إليه طويلا، وتأمل لحظات استغراقه فى قراءة الوجوه، واللفتات، والتقاط اللحظة الحقيقية فى زحمة الأيام.

حدثته عنى، كواحد من أكثر تلاميذه ومحبيه استمتاعا بموسيقى حضوره الإنسانى الذى يخطف الروح، وحضوره الكتابى الذى يفيض عذوبة وجمالا، بقدر ما يفيض بالمعانى والدلالات، وقلت له إنه إذا كانت آفة الحياة الثقافية فى مصر وبلاد العرب، هى اللهاث وراء الجوائز، ظنًا أنها قد تمنح من يحصلون عليها قيمة ما، فهناك من يمنحون الجوائز قيمة، وأنه هو من يمنح أى جائزة قيمتها ومعناها.

سألنى عن أولادى، وقلبنا معًا فى صور ملك ويحيى، التى كانت معى على هاتفى المحمول، واتسعت ابتسامته وهو يداعبنى: «كبرت وبقيت أب كمان يا واد؟».

قضيت معه بضع ساعات من البهجة لرؤيته يضحك، ويلقى النكات رغم ثقل المرض، ولم أتوقف عن تقبيل اليد، التى طالما سندت روحى المجهدة، وربتت على ظهرى المتعب، لكننى حين جاء وقت المغادرة، لم أستطع أن أمنع قلبى من البكاء.