رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: الراهب يحيى خليل.. حكاية درويش متوحد في محراب الموسيقى


لا أفهم فى التحليل الموسيقى، ولا فى أى تحليل الحقيقة، لكننى أحب المزيكا كما تروق لمزاجى، أتمايل مع أسطوات الموال ويا ليل يا عين، وقد أستمتع بأغنية لمحمود العسيلى أو البنت روبى، وفى أحيان كثيرة لا تمنعنى هيبتى العائلية من الرقص مع أغانى أحمد شيبة و«آه لو لعبت يا زهر».
شىء غريب يحدد لحظات المزاج، وشىء أغرب يجعلنى أهوى حفلات «يحيى خليل» الموسيقية، ولا أستمتع بموسيقاه إلا وهو أمامى على المسرح، ولا أحرص على حضور حفلات إلا مع هذا الرجل، إذ أجد نفسى أمام حالة فنية متكاملة يقودها ناسك متعبد فى محراب الموسيقى، يحلق فى منطقة بعيدة بمقطوعاته الخاصة.

قصة نجم الجاز من ثورة العبيد إلى عزف همنجواى مع سيمون وفاتن حمامة

قبل نهاية ٢٠١٧، والتفاؤل المفرط والمعتاد باستقبال عام جديد أفضل، كنتُ على موعد مع يحيى خليل.. ذهبت مع الروائى عبدالوهاب داود إلى المسرح الصغير بدار الأوبرا، وكلانا مستعد تمامًا لاستقبال البهجة. فهذا الدرويش الذى حضرنا من أجله قادر على إرضاء مريديه وعشاقه بموسيقى تخص الوجدان.
فعلها «يحيى» وهو يصنع حالة من البهجة مازجًا بين روائع القديم ولمساته المدهشة بفريق مكون من شباب يجيد العزف والغناء والابتكار، وعلى المسرح يتحول إلى كتلة من الفن، وتتوهج روحه كدرويش متوحد مع جماليات الموسيقى، وما إن ينتهى من عزف مقطوعته، حتى يفسح المجال لأعضاء فرقته، فيسمع الجمهور عازف الناى والأوكورديون والجيتار والطبلة والرق.
وفى الأخير يمتزج كل ذلك من جديد ليقدم أشعار أحمد فؤاد نجم، ومقطوعات من روائع عبدالوهاب وأم كلثوم وحليم، ولم يكن غريبًا والحال كذلك أن ينتظر الشباب فى مصر حفلات يحيى خليل بشغف، وأن تمتلئ قاعة المسرح الصغير بدار الأوبرا عن آخرها تقديرًا لهذا الفن.
استوقفنى يحيى خليل منذ سنوات الصبا كما سأحكى لكم، لكننى مؤخرًا ومع تقدمى فى السن واهتمامى بالرواية وكُتابها فى العالم، وجدتُ تشابهًا فى ملامح يحيى خليل مع الروائى الأمريكى إرنست همنجواى الذى كان مجنونًا بالسفر والتنقل واكتشاف عالم الحيوانات والجبال كوقود للكتابة والإبداع، وربما كنت أرى يحيى خليل كذلك، فهو أيضًا ذهب إلى الغابات، بحثًا عن الموسيقى فى آهات الألم، عن الحرية تحت كرباج الجلاد.
هناك على نهر المسيسيبى تجمع خليط من أثرياء أوروبا وشكلوا طبقة «الأسياد»، واشتروا الزنوج من أدغال إفريقيا وجعلوهم عبيدًا، وأذاقوهم ألوان العذاب، وفى المزارع والحقول والأحراش وفى قسوة البرد وصهد الشمس وغطرسة «الأبيض» المغرور، كانت أغانى الأجداد هى الدواء.
ينطلق صوت محزون مقهور لتتجاوب معه أصوات الرفقاء تهون قسوة الحياة بالغناء، وأصدر أبراهام لينكولن ١٨٦٣ أهم قرار فى التاريخ بإلغاء الرق، ووجد العبيد أنفسهم أحرارًا، ومن حقهم الغناء والتجول فى الشوارع، فصنعوا حالة جديدة من البهجة جعلت أصحاب الكازينوهات وعلب الليل يستعينون بهم.
راحوا يرتجلون الموسيقى، ويستخدمون آلات أجدادهم من الطبول الضخمة، بل ويصنعون من آلات النفخ النحاسية التى خلفتها الحروب أعذب الألحان، وانتشرت موسيقى «الجاز» وظهر لها مشاهير وأساطير، ومنهم المصرى «يحيى خليل»، الذى عاد من أمريكا بعد ١٥ عامًا بموسيقى الجاز مصرية الروح راقصة وملتهبة وشجية وعذبة.
عبر رحلة طويلة، حرص يحيى خليل على التميز، ورفض الخضوع لمنطق السوق مخلصًا لأفكاره وثقافته الواسعة، فهو مؤمن بأن لكل فنان بصمة لا بد أن تظهر فى كل عمل يقدمه للناس، حتى فى السينما لم يقدم سوى ما يتناسب مع تلك الرؤية. فهو صاحب موسيقى أفلام «أرض الأحلام» للفنانة فاتن حمامة التى أبدع لها أيضًا موسيقى فيلم «يوم حلو ويوم مر» مع محمد منير وسيمون، وهو صاحب موسيقى برنامج «حكاوى القهاوى» المحفورة فى وجدان جيل الثمانينيات والتسعينيات.

العائد من أمريكا يواجه «كشوف البركة» والحجاب فى «زمن الأساتوك»

فى ١٩٧٩ كان يحيى خليل عائدًا من أمريكا مهووسًا بفكرة تمصير موسيقى «الجاز»، فقد عاش ربع قرن فى عالمها وعزف مع كبار مشاهيرها على مستوى العالم، وكان فى كل يوم وعقب كل حفل ينظر إلى الجماهير التى تخرج من باب المسرح فى سعادة بالغة، ويحلم بأن يصفق كل هؤلاء يومًا للموسيقى المصرية العظيمة، وأن يزين اسم القصبجى وعبدالوهاب صالات المسارح التى تستقبل ملايين الشباب من عشاق الجاز على مستوى العالم.
كانت مصر الثمانينيات، تشهد تغيرات جذرية فى مزاجها العام مع ظهور شركات توظيف الأموال وسيطرة ثقافة الحجاب والإسدال، وتسرب ذلك إلى الفن والموسيقى بالطبع، واهتمت شركات الإنتاج بإرضاء ذوق الطبقة الجديدة التى عادت من الخليج عقب كارثة غزو الكويت لتوظيف أموالها بـ«الحلال».
شهد الفن انهيارًا مهولًا، وامتد طابور الفنانات التائبات وظهرت فتاوى تستحل دم أهل الفن، بينما كان جيل الشباب فى خلفية المشهد تائهًا لا يستطيع تذوق أغانى «إيه الأساتوك ده؟» التى أغرقت سوق الإعلانات، وغير قادر على التعامل مع عبدالوهاب وأم كلثوم، بينما ظلت قطاعات واسعة حائرة بين تحريم الفن تمامًا أو الاستغراق التام فى عالم الموسيقى الأجنبية.
كانوا يحتاجون جسرًا يصل بهم إلى بر الفن، وعندما رأيت يحيى خليل فى ميدان التحرير سعيت إليه، كنتُ مهووسًا بهذا الرجل الذى ارتبط فى وجدانى بتلك القصص، كان أنيقًا بملابسه الملونة المبهجة ووجهه الخواجاتى وروحه المصرية الخالصة، وتعددت اللقاءات حتى أصبح من حقى أن أسأله: لماذا الجاز وهو رجل أبيض البشرة عاش طفولته وشبابه فى رفاهية سمحت له بالسفر والتجول فى عدة عواصم أجنبية؟
ضحك يحيى، وفهم قصدى، وقال: «مثلما أراد الزنوج تطوير موسيقاهم وجعلوها عنوانًا لثقافتهم وأجبروا الملوك والأباطرة على سماعها، كنت أحلم بوصول التنغيم المصرى متطورًا إلى الشباب.. كنت أحمل مشروعًا كاملًا قائمًا على دراسة المزاج الفنى العام لمعظم شباب مصر فى الثمانينيات».
ارتبط يحيى خليل بمجموعة كبيرة من الأدباء والمثقفين، وعلى رأسهم الراحل يوسف إدريس، وخلال زياراته إلى القاهرة التى سبقت عودته نهائيًا من أمريكا، كان حريصًا على الجلوس معهم، لمناقشة تلك الأوضاع التى تلقى بظلالها على الفن والموسيقى والهوية المصرية بشكل عام.
وقتها، طرح عليهم مشروعه الموسيقى القائم على تجديد الدماء فى ألحان عباقرة الموسيقى، وتقديم لون جديد يناسب روح الشباب والخروج بالموسيقى المصرية والعربية إلى العالمية، ومزج الآلات الغربية مع المصرية، وهى التوليفة التى صنعها بحكمة واقتدار موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، الذى أكمل بدوره مشروع الشيخ سيد درويش فى تطوير المزيكا المصرية.
وجد يحيى خليل ترحيبًا كبيرًا، وبدأ فى اختيار وتشكيل وتدريب فرقته المكونة من ٤ عازفين فقط: «يحيى خليل وفتحى سلامة وعزيز الناصر ومايكل كوكيز»، ولم يتبق أمامه سوى اختيار مطرب للفرقة يحمل روحًا مصرية، وتطل من ملامحه موسيقى الجاز، وكانت المواصفات صعبة، حتى ظهر هذا الشاب الأسمر النحيف القادم من النوبة بأحلام عريضة وبتراث موسيقى وغنائى ممتد الجذور.
الجذور.. نعم هو ما يبحث عنه «يحيى خليل»، يريد إحياء موسيقى الجنوب البعيد كما فعل عباقرة الجاز وأجبروا العالم على التصفيق لهم، وكما فعل «إليكس هيلى» فى روايته المعروفة بنفس الاسم «الجذور»، وفعلها «يحيى» ونفخ روحًا فى «كريشندو» أو أغنية «قد.. وقد» التى كتبها «شوقى حجاب» حيث تتصاعد الموسيقى لتصنع طوقًا من الفل والياسمين مزينا بالكلمات حول رقبة الحبيبة:
«قد البحر والسماوات والأرض.. قد الحَب والفراشات والورد.. قد ما خد م الأزهار الخد.. قد ما مد الأحباب اليد.. قد وقد الدقات والنبض.. قد وقد الأصوات والرد..»

القصة الكاملة لأسطورة «شبابيك»

قلت إن يحيى خليل مرتبط معى منذ مرحلة الصبا وبدايات المراهقة الله يرحم أيامها، فمع ثورة الكاسيت التى اجتاحت مدن مصر وقراها أوائل الثمانينيات، وصل إلينا يحيى خليل ولم نكن نعرف اسمه.
كنّا مجموعة من مثقفى القرية، كباقى المجموعات المنتشرة فى قرى وأقاليم أخرى على أرض المحروسة الممتدة، نسمع فيروز ولا نفهم كلمات الأغانى، نلطم مع عبدالحليم ونبكى الفراق واللوعة ولا نملك حبيبات، نسمع أم كلثوم لأنها تغنى قصائد صعبة، ونناضل مع الشيخ إمام ولا نعرف إيه القصة بالضبط، فوصل إلينا «شبابيك» حيث «شجر الليمون.. وأشكى لمين.. والليلة يا سمرا.. وقد وقد».
كان الشريط - لم نكن نعرف مصطلح ألبوم - أسطورة صنعها الخيال، وترجمها فنان اسمه يحيى خليل عائد من عالم الجاز ليكتشف حلاوة وروعة الموسيقى المصرية عند أحمد منيب وبليغ حمدى، والكلمات لعم الشعراء فؤاد حداد وعبدالرحيم منصور ومجدى نجيب وبليغ حمدى، والصوت لشاب أسمر يشبه جنون الفقراء وأحلامهم اسمه محمد منير، والموسيقى حية نابضة لا تشبه ما نسمع من ألحان، حتى إنها ما زالت تُطرب روحى حتى الآن: «أشكى لمين وأحكى لمين.. دنيا بتلعب بينا.. توهنا سنين ولا عارفين..».
جيلى - البائس - الذى أحدثك عنه هو المولود فى السبعينيات أو قبلها بشهور، حيث لا هزيمة ولا انتصار، ورثنا الناصرية بمنافعها والساداتية بكامب ديفيدها، لا شىء يخصنا أو يعبر عنا، أخيرًا وجدنا كلمات تحترم الشعر والغناء، وموسيقى مختلفة وغريبة تتسرب إلى الروح بشجن: «كام عام ومواسم عدّو.. وفينك أنا من غيرك..»، وتتحول إلى بهجة ورقص وسعادة فى «البنت قالت فستانى منشور على الشط التانى..خدنى المراكبى وعدانى»، وتندب الحظ وقلة البخت فى هذه الدنيا «أشكى لمين واحكى لمين.. تُهنا سنين ولا عارفين بكرة جايب إيه لينا».
تناقلنا الشريط من بيت إلى آخر، لكن جلسات كل خميس التى كنا نتجمع لنسمع فيها «شبابيك» فى الغيطان وعلى شط الترعة، ما زالت تعيش فى الذاكرة، كنا نكتتب لنجمع ما يكفى لشراء ٤ بطاريات كبيرة وكيلو عنب وشوية لب وفول سودانى وكام سيجارة فرط لزوم مزاج المثقفين الصغار الذين ينفثون الدخان فى السماء، زهقًا وبحثًا عن شىء لا يعرفونه «كل ده بجنيه ونص.. آه».
نتجمع على الجسر فى العاشرة مساءً، ونتوجه فى صمت إلى الهدف وسط دهشة أهل القرية من عيال الأيام دى!، وفى الجلسات كنا نتفلسف حول معانى كلمات عبدالرحيم منصور، وهل كان الشاعر يقصد فلسطين بـ «شجر الليمون الدبلان على أرضه»؟، أم يصف حال المحب والعاشق بعد فراق الأحباب؟
هل كان الشاعر «مجدى نجيب» معتقلًا خلف القضبان ويرى العالم من شباك الزنزانة حين كتب «شبابيك»، أم أن خيال الشعر والثقافة بشكل عام يصنع كل هذا الجمال لنرى الحياة من قريتنا الفقيرة ونطل من النوافذ والشبابيك على رائحة الحرية؟
لكننا - بوصفنا من كبار مثقفى القرية - كنا نعرف جيدًا أن عمنا فؤاد حداد كتب قصيدة طويلة بعنوان «الليلة يا سمرا»، وأن فريق العمل المدهش اختار ٣ كوبليهات فقط للغناء، وكنا نعرف أيضًا أن مصر هى السمراء التى طلبت فستانها من الشط التانى من القناة فنهض المصريون وحطموا خط بارليف وعدّى المعدى وعداها.

قتل الأب بين الكينج وعلماء النفس

كان محمد منير قبلها قد ظهر فى «علمونى» و«بنتولد» الذى جاء ثمرة تعاون بين مجموعة الكبار: «أحمد منيب وعبدالرحيم منصور وسيد حجاب ومجدى نجيب»، وحقق نجاحًا لا بأس به، لكن الطفرة الكبرى التى جعلته يعزف منفردًا ويتربع على القمة، ويصل إلينا فى القرى ونعرف اسمه فجاءت مع «شبابيك» بنفس فريق العمل تقريبًا وبإضافة فرقة «يحيى خليل» بدلًا من «هانى شنودة».
وكبرنا.. وعرفنا مثلما عرف أقران لنا فى قرى ومدن مصر أن «شبابيك»، من أهم التجارب المؤثرة فى مسيرة الغناء المصرى، وأن الفريق الذى صنع كل هذا الجمال كان هبة ربانية جعلت كل هؤلاء العباقرة يتجمعون فى عمل واحد، وأن فنانًا مصريًا اسمه يحيى خليل نجح فى صناعة هذه النقلة الموسيقية المهمة، محلقًا بالكلمات والألحان إلى عالم ساحر ومدهش يصعب وصفه بكلمات سوداء تقرأها الآن.
لكنك من الممكن أن تستمع به الآن، وأنا أتمتم بصوتى الرخيم: «حطى اللى خلفك قدامك تلقى البلد عامرة الليلة»، ويمكنك أن تسمعه فى «أشكى لمين »، وهى من ألحان العبقرى بليغ حمدى، وهل يمكن الاقتراب أو الإضافة إلى لحن خرج من عود بليغ؟ فعلها يحيى خليل واكتشف جانبًا من عبقرية بليغ، وانطلق بكل هذه الأدوات العظيمة من حنجرة استثنائية لمطرب استثنائى، ومن كلمات وألحان إلى ذلك العالم السحرى.
دارت بنا الأرض وتنقلنا فى أرجائها ومعنا أجيال أخرى - بائسة وغير ذلك - وظلت أسطورة «شبابيك» تتجدد كل يوم وتناسب أذواقنا مهما كبرنا.
لكن لماذا أزعجك بتلك القصص والحكايات عن «شبابيك» وجيلى البائس؟ تسأل، وأجيبك بأن هذا النوع من الفن الاستثنائى لم يأت من فراغ وليس لقيطًا، بل جاء من رؤية وفكر منسوب إلى آباء وأجداد لا يجوز إنكار أحدهم أو محو دوره فى صناعة تلك الأسطورة.
«شبابيك» حالة وجدانية لا يحق لأحد الاستحواذ عليها ونسبتها إلى نفسه، ولم يكن لائقًا بالفنان محمد منير أن يرفع اسم «يحيى خليل» من الإصدارات التالية لـ«شبابيك»، فقد ظهرت أجيال لا تعرف أن أحد الأبطال الذين صاغوا هذا الفن الخالد، تمت إزاحته بطريقة فيها كثير من الخسّة وإنكار أفضال الناس الذين صنعوه من عدم.
صحيح أن خلافات كبيرة قد حدثت لا أعرف تفاصيلها ولا يهم معرفتها، لكن هذا لا يعطى الحق لطرف - كان هو الأقل والأضعف فى دائرة كاملة - أن يرتكب تلك الجريمة فى حق طرف آخر، متوهمًا أنه تخلص منه.
علماء النفس قدموا دراسات مطولة عن حالات مشابهة لنجوم تصيبهم لعنة الماضى وتطاردهم، فيحاولون دفنه بكل تفاصيله، فهناك عقدة «الأب» التى تطارد البعض وتظل تنغص حياته مهما صعد نجمه، فيسعى من دون وعى إلى محاولة اغتيال وقتل هذا الأب الذى كان شاهدًا فى الماضى على ما أصبح يخجل منه النجم.
يحيى خليل هو المكون الأساسى لأسطورة فنية شكّلت وعى أجيال، وانطلقت بهم إلى عالم جديد من الموسيقى، وحتى اليوم ما زال الرجل فخورًا بتجربته مع منير سواء فى «شبابيك» الذى صدر عام ١٩٨١، أو فى «برىء» الذى صدر فى العام نفسه، وبعدهما «اتكلمى» عام ١٩٨٤، ولا ينسب إلى نفسه الفضل فى نجاح ونجومية محمد منير كما يروج البعض.
لكنه - فقط - حزين، ليس لرفع اسمه من على شريط أو ألبوم. فالتاريخ لا يسقط بأقلام الكوريكتور أو أصابع المغرورين، ولكن لشعور بالألم، فقد كان يطمح إلى تكوين فرقة راسخة الأقدام، ومتكاملة التقاليد الفنية يمكنها اختراق مسارح العالم وتقديم الموسيقى المصرية متجاورة مع موسيقى شوبان وبيتهوفن، وكان بإمكان صُناع «شبابيك» أن يفعلوا ما هو أكثر، لكن لا ضير كما يقول النُّحاة، ويكفى ما بقى من تلك التجربة فى ذاكرة الأجيال حتى اليوم.
لا يحمل يحيى خليل بوجهه الأبيض المبتسم ضغينة تجاه أحد، وظل مخلصًا لأفكاره عن الفن ودوره فى تغيير المجتمع، ونجح فى تحقيق حلمه وفتح نافذة جديدة جعلت موسيقى «الجاز» مصرية الروح، وكان برنامجه الاستثنائى «عالم الجاز» الذى كانت تذيعه القناة الثانية بالتليفزيون المصرى وراء تشكيل ذائقة مختلفة راحت تتطور يومًا بعد يوم، وهى التى تزحف خلفه، وتنتظر حفلاته.