رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالناصر والديمقراطية «2-2»


تصوير أول مشاهد المسلسل «الرحلة 710»
فى رأينا لم يكن عبدالناصر فى داخله معاديًا للنظام الديمقراطى، لكنه وفى إطار مفهوم «المستبد العادل» كان مؤمنًا إيمانًا راسخًا بأن مشروعه الانتقالى هو المشروع الأصلح لتأهيل الجماهير للديمقراطية السليمة.
ولعل أبلغ دليل على المشروع الناصرى الانتقالى وتأثره الشديد بنظرية المستبد العادل- لجوؤه، كما أشرنا من قبل، إلى مجالس شبه ديمقراطية كهيئة التحرير والاتحاد القومى وصولًا إلى صيغة الاتحاد الاشتراكى. ولم يكن عبدالناصر فى الحقيقة يؤمن بجدوى مجلس الأمة «برلمان ذلك الزمان»، كما فقد ثقته بالاتحاد الاشتراكى؛ لذلك فضل عبدالناصر أن يُنشئ تنظيمًا سريًا من داخل رحم النظام هو التنظيم الطليعى ليكون هذا التنظيم هو نواة «حزب الثورة» عندما يأتى الأوان وتنتهى المرحلة الانتقالية وتعود الديمقراطية من خلال التصور الناصرى بنشأة حزبين من رحم الثورة أحدهما فى السلطة والآخر فى المعارضة.
ويرصد ثروت عكاشة فى مذكراته إيمان عبدالناصر الذى لا يتزعزع بأهمية المرحلة الانتقالية وضرورة تعويد الشعوب على فكرة الديمقراطية:
(كان يرى أن فترة حكمه- ناصر- التى سلفت كانت فترة انتقالية، ولكل فترة استثنائية نهاية تنتهى عندها وبعدها لا بُد أن يأخذ نظام الحكم شكلا آخر تكون فيه السلطة موزعة بين مسئولين عدة لا مسئول واحد، حسبما يقضى النهج الديمقراطى، وأن وجوده هو- ناصر- على رأس هذا الحزب الذى يتمناه سيكون فيه الضمان لتأخذ الأمور مسيرتها الحقة، وبهذا يكون قد حقق أمنيته، فقد كان أخوف ما يكون من أن يتولى رئاسة الحزب غيره فلا تسير الأمور سيرتها الصحيحة».
ويلخص ثروت عكاشة أزمة الديمقراطية قائلًا:
«غير أنه حدث للأسف بسبب ذلك، المخاطر الخارجية والداخلية، أن تعرضت حرية أعداد كبيرة من المواطنين المصريين لعدوان ترك ندوبًا على وجه ثورة غيَّرت مجرى التاريخ.. وما كان أجدرها بأن تظل نقية من مثل هذه الندوب!».
ويعترف عبدالناصر نفسه بفشل نظام ما قبل يونيو ١٩٦٧:
«لقد سقط نظامنا يوم ٩ يونيو ولا أوافق من يقول إن المظاهرات التى خرجت كانت إعرابًا عن الثقة فى النظام، فنحن نبدأ بداية جديدة».
ولذلك يختلف النظام الناصرى بعد ١٩٦٧ عما قبله، ويذكر ثروت عكاشة فى مذكراته غضب الشباب أثناء مظاهرة ١٩٦٨ من النظام وليس من الزعيم، وحجة هؤلاء- الطلبة- أنه ليس هناك تغيير، لذلك يذكر عكاشة أن عبدالناصر لم يكن غاضبًا من خروج جموع الشباب (غير أن مما آلمه من تلك الهتافات هتاف يتضمن هذه الكلمات: مفيش تغيير بالمرة والعيشة بقت مُرَّة). وسيؤدى ذلك إلى بداية كفر عبدالناصر بأركان النظام القديم «إن مشكلة الدولة الآن أنها إقطاعيات؛ إقطاعية الجيش وإقطاعية الاتحاد الاشتراكى وإقطاعية مجلس الأمة وإقطاعية الحكومة، ولن يتسنى لأحد السيطرة على هذه الإقطاعيات إلا أنا. لذلك رأيت أن أرأس الوزارة بنفسى حتى أقضى على هذه المشكلة القبلية».
وسيتم طرح بيان ٣٠ مارس ١٩٦٨ الذى اعتبره عبدالناصر بدايات الإصلاح السياسى للنظام، كما سيبدأ عبدالناصر فى مراجعة سياسته العربية، حيث يُجمع الكثيرون ممن حول عبدالناصر فى تلك الفترة على شكواه الدائمة من ضعف التأييد العربى له آنذاك، وسيبدأ ناصر فى خطوات إزالة آثار العدوان بالاستعداد للحرب من جديد، وستمتاز سياسته الخارجية فى تلك الفترة القصيرة ٦٧-١٩٧٠ بالكثير من التعقل والحكمة والتعامل مع الأمر الواقع وكيفية الوصول إلى الحل الممكن. وكان قبول عبدالناصر لمبادرة روجرز ١٩٧٠ خطوة فى هذا الاتجاه رغم الاتهامات الظالمة التى وجهتها بعض المنظمات الفلسطينية إليه.
فى تصورنا أن العمر لم يستمر بناصر طويلا بعد ١٩٦٧ وأننا كنا سنجد ناصر آخر فى الخمسينيات من عمره يتميز بالمزيد من الحكمة والواقعية؛ أعتقد أنه لو طال العمر بعبدالناصر لكان قد قام باستكمال بناء الجيش والحرب مع إسرائيل ربما قبل عام ١٩٧٣، وكان من الطبيعى أن يدخل عبدالناصر بعد هذه الحرب فى مفاوضات طويلة مع إسرائيل والغرب. ولكن كاريزما عبدالناصر وتاريخه النضالى الطويل كانا سيساعدان على الحصول على مكاسب على الأرض ربما أكثر بكثير مما توفر بعد ذلك للسادات الذى لم يكن يتمتع بتاريخ عبدالناصر الطويل. ونعتقد أيضًا أن عبدالناصر كان سيبدأ بعد هذه الحرب مباشرةً فى إرساء قواعد الديمقراطية فى مصر حتى يندمل جرحه القديم من عجزه السابق عن تحقيق مبدأ الثورة «إقامة حياة ديمقراطية سليمة»، ولن يختلف- فى رأينا- أسلوب عبدالناصر عن أسلوب السادات فى خطوات تطبيق الديمقراطية سواء كانت منابر أو أحزابا من داخل النظام، وقدرا أوسع من حرية الصحافة، لكننا نعتقد أن كاريزما عبدالناصر وانتصاره فى الحرب والسلام، كما تخيلنا، كانا سيعطيان مناخا أفضل للديمقراطية عن هذا المناخ الذى توفر لخلفه السادات. وربما لجأ عبدالناصر إلى المزيد من الانفتاح الاقتصادى، ولكن ليس على النهج الساداتى، كما وصفه أحمد بهاء الدين: «الانفتاح الاقتصادى سداح مداح»، ولكن من مفهوم الرأسمالية الوطنية. وأزعم أن فكرة العروبة عند عبدالناصر كانت ستأخذ أبعادًا أكثر واقعية وربما ستميل إلى الاهتمام أكثر بالجوانب الاقتصادية والثقافية عن الجانب السياسى، وربما اعترف عبدالناصر بالتنوع والتعدد داخل إطار العروبة.
أتصور أن الزمن لم يمهلنا حتى نرى ناصر جديدا أكثر واقعية وأكثر خبرة وربما كان سيجنبنا ذلك الكثير من أزمات الديمقراطية والتطرف الدينى بعد ذلك.
ومهما يكن من أوجه النقد للجمهورية الناصرية، فإن ذلك لا يُقلِّل أبدًا من القيمة التاريخية لناصر ونظامه، بعظيم إيجابياته وكبير أخطائه؛ فمن يستطيع أن ينسى حلم تصنيع مصر وإدخال مصر عصر الثورة الصناعية، رغم كل عيوب نظام القطاع العام؟!، كما عمل النظام الناصرى دومًا على محاولة تحقيق العدالة الاجتماعية مما ساعد بحق على قوة الطبقة الوسطى فى عصره وإجراءات عديدة لتقريب الفوارق الاجتماعية بين الطبقات، رغم العديد من الانتقادات حول نجاح النظام فى ذلك من عدمه، و«ضربة المعلم» بتأميم قناة السويس، ومن ينسى السد العالى وقصة الإرادة المصرية وراء بنائه؟!.
وبين الماضى وأحداث الحاضر لا بُد من الاعتراف بنقاء يد عبدالناصر وبُعده عن الفساد وبقائه رمزًا للطهارة الثورية مقارنةً بمن استنزفوا ثروة مصر وحولوها إلى أرصدة فى الخارج. ولهذا كله نسيت الجماهير أخطاء الفترة الناصرية وتذكرت ناصر الحلم والأمل ورفعت صورته فى ميدان التحرير، فالشعوب فى لحظات الألم تخلق لها زمنًا جميلًا وأبطالًا مخلِصين ومُخَلّصِين من أجل الوصول إلى المستقبل.