رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

علي الغزولي.. الرجل الذي سجَّل تاريخ مصر من شُرفة منزله

جريدة الدستور

فى وثائق التاريخ كنت دومًا فى مواجهة وثيقة صماء: «ورقة، رسالة، صورة، أو حتى تسجيلات نادرة سواء صوتًا أو صورة»، لكنى هذه المرة أجد نفسى وجهًا لوجه مع وثيقة حية تمشى على قدمين، رجل وضعته المقادير فى قلب حدث هز الدنيا، فلم يتردد فى أن يسجله لحظة بلحظة، وأن يوثقه بكاميرته، ليصبح شاهدًا حيًا على ما جرى فى مصر منذ ٢٥ يناير ٢٠١١.
هو الرجل الذى شاهد الثورة من شرفة شقته، ورصد أيامها وتطوراتها وأحداثها، وسجل بعدسته لحظات زهوها ولحظات خيباتها، مشاهدها الناصعة والدامية، سجلها برؤية مخرج سينمائى قدير، ومصور محترف وبوعى خبير وبحس إنسانى، لنكون أمام وثيقة نادرة على ثورة كثيرة الألغاز، رغم أن وقائعها جرت على الهواء.


الشوارع لم تكفِ مُشيعى جنازة جمال.. وشاهدت ريفية تسرق «ويسكى» فى «انتفاضة الخبز»

بطلنا أو وثيقتنا الحية اليوم هو الدكتور على الغزولى «حارس ميدان التحرير وكاتم أسراره»، الذى يعد واحدًا من أهم مخرجى السينما التسجيلية فى مصر والعالم العربى، ويصفه ناقدنا الكبير على أبوشادى بـ «المخرج الشاعر».
أفلامه كانت وما زالت ترصد مصر الحقيقية بروحها وحضورها وتفردها، وفى «صيد العصارى» و«الريس جابر» و«حديث الصمت» ستجد قصائد سينمائية، وفى رباعيته عن سيناء: «أرض الفيروز» و«سيناء هبة الطبيعة» و«حكيم سانت كاترين» و«قوافل الحضارة» ستجد أفلامًا بعيون عاشق.
وخلال مسيرته المبدعة حصل «الغزولى» على عشرات الجوائز والتكريمات المحلية والعربية والعالمية، وما زال عقله - رغم تجاوزه الثمانين من العمر - مشتعلًا بالأحلام والأفكار والأفلام الجديدة.
«الغزولى» عندما انتقل إلى سكنه الجديد فى ١٩٦٧، لم يكن يعرف أنه سكن فى قلب التاريخ، وأصبح شاهدًا عليه، فشقته تطل وتتوسط المسافة بين ميدانى التحرير وعبدالمنعم رياض، ومنها يمكنك أن ترى بوضوح ما يجرى فى تلك المنطقة الحيوية فى قلب القاهرة.
من شقته، رأى مشاهد تاريخية غيرت تاريخ مصر، بداية من الحشود التى خرجت ليلة تنحى عبدالناصر فى يونيو ١٩٦٧ إلى جنازته المهيبة فى سبتمبر ١٩٧٠، إلى اعتصامات القوى الوطنية فى ميدان التحرير عام ١٩٧٢ احتجاجًا على حالة اللاسلم واللاحرب، التى خلدها أمل دنقل بقصيدته «الكعكة الحجرية»، وصولًا إلى مظاهرات ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ احتجاجًا على رفع أسعار الخبز، وأخيرًا الأيام الـ١٨ لثورة يناير ٢٠١١ من شرارتها الأولى إلى مليونيات ما بعد تنحى «مبارك».
فى وقائع ما قبل ثورة يناير لدى الدكتور «الغزولى» ذكريات عديدة، من بينها ما حدث فى عام ٦٧، ويقول عن ذلك: «لما حصلت نكسة ٦٧ وقبل خطاب التنحى بيوم كنت حاسس برائحة الكارثة.. كان يخيم على البلد جو من الغموض والترقب، ولما ظهر عبدالناصر على الشاشة يعترف بالهزيمة، ويتحمل مسئوليتها ويعلن تنحيه عن السلطة، لقيت نفسى وسط حشود سدت الشوارع».
وأضاف: «كواحد من الذين حضروا المشهد، وشاركوا فيه، أشهد أن الناس نزلت من تلقاء نفسها وبلا توجيه خوفًا على مصير البلد.. نفس المشهد ونفس التلقائية تكررت فى موت عبدالناصر.. الناس نزلت من نفسها لتودع زعيمها».
وتابع: «أنا فاكر إننا لقينا ناس تقتحم عمارتنا المطلة على ميدان التحرير، وتصعد إلى سطوحها لتشاهد الجنازة.. وأذكر أن جارتنا مدام عواطف الله يرحمها راحت تتوسل لهم: (اللى يحب عبدالناصر ينزل يمشى وراه)».
يقول: «قابلت صديقى المخرج الدكتور مدكور ثابت - الله يرحمه - فى الشارع، وإحنا داخلين على صيدلية الإسعاف رأينا مشهدًا مذهلًا، كان المئات تسلقوا سطحها وصعدوا إلى لوحة إعلانية ضخمة فأصبحت اللوحة وكأنها مرسومة بالبشر». قال «الغزولى» لـ«مدكور» فورًا: «لازم ندبر كاميرا بأى شكل علشان نصور تلك المشاهد المذهلة، لكننا فشلنا فى ذلك».
ويستكمل: «أذكر أننى ذهبت إلى بيت صلاح جاهين فى الليل، وكان عنده بعض الأصدقاء وجلس مرتديًا جلبابًا واسعًا يرسم الكاريكاتير الذى سينشر فى الأهرام صباح يوم الجنازة، ويصور فيه عبدالناصر وكأنه ملاك بجناحين يصعد إلى السماء وتحته جماهير الشعب تودعه ويلتفت لها قائلًا: (زى ما علمتكم.. النظام.. تمشوا ورايا النهارده بنظام)».
ويواصل: «لا أنسى دموع صلاح جاهين وهى تسيل على خديه أثناء رسمه الكاريكاتير.. كنت أستغرب كيف تسيل دموعه رغم ملامحه الجامدة». وفى مظاهرات «الكعكة الحجرية» ضد «السادات»، رأيتها من شقتى، وفى طريق ذهابى وعودتى كنت أمر عليهم وأجلس معهم، وكانت تربطنى صلة بـ«أمل دنقل»، وكان أغلب الموجودين من رموز اليسار، وهم الذين قادوا «انتفاضة الخبز» فى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧.
وما زالت تعلق بذاكرتى صورة لسيدة ريفية بسيطة تخرج من أحد ملاهى شارع الهرم اقتحمه المحتجون وعلى رأسها صندوق «ويسكى».. كان واضحًا أنها لا تعرف ما فى الصندوق.. المهم أنها خرجت بغنيمة.

الإخوان لم يظهروا إلا يوم «جمعة الغضب»

يوم جمعة الغضب نزلت فى صباحه لأتجول فى المنطقة، ووصلت إلى شارع «طلعت حرب».. كانت الأمور هادئة أو بدت كذلك إلى أن تغير الموقف كليًا بعد صلاة الجمعة وخروج المصلين، ففجأة ظهرت الحشود وبدأت الاشتباكات.
فى ذلك اليوم بدأ ظهور أعضاء جماعة الإخوان فى الصورة، فقبلها لم يكن لهم حضور ولا دور، ربما كان منهم أفراد بصفتهم، أما كجماعة منظمة فقد كان الإعلان الفعلى عن مشاركتها فى ذلك اليوم، كنت أعرفهم من شكلهم، وكانوا من الدهاء أنهم لم يرفعوا أى شعارات إسلامية، وصورتهم وهم يهتفون مع الجموع: «مدنية.. مدنية».
اللحظة الوحيدة التى كان ينكشف فيها توجههم الإسلامى عند إقامة الصلوات، إذ يكون على بنات الثورة «السافرات» أن «يأخذن جنب»، وبعدها يعود الاختلاط والوحدة.
وأشهد أنه فى تلك الأيام الـ١٨ كان الجانب الأخلاقى مثاليًا، ولم أرصد حالة تحرش واحدة، وأعرف صديقات كن يَبِتْن فى الميدان بلا مشكلة، بل لم نرصد حالة سرقة رغم كل الزحام، وأذكر أنه كان هناك مكان اسمه «ركن المفقودات» من يعثر على شىء يضعه فيه ومن يفقد شيئًا يجده فيه.. بل كنت تجد من يقدم لك خدمات ميدانية كشحن الموبايل.
فى مقابل هذه «الرومانسية»، رأيت ورصدت مشاهد من العنف المفرط، وأذهب فورًا إلى ما رصدته فى اليوم الذى اشتهر باسم «موقعة الجمل»، ففى صبيحته رأيت وسمعت بأذنى وصورت تجمعًا من المتظاهرين فى مدخل الميدان عند المتحف المصرى، تبين لى من حوارهم أنهم ينتظرون زملاء لهم قادمين من ميدان مصطفى محمود.
كانوا يتشاورون، هل ينتظرونهم فى مدخل ميدان التحرير أم يتراجعون، ليكون مكان اللقاء عند مبنى التليفزيون؟.. لم أكن بحاجة لمن يدلنى على هوية حشود «الثورة المضادة» وخطتهم لاقتحام الميدان وإخلائه بالقوة من المتظاهرين. لم أتوقف كثيرًا عند مشهد «الجمل» الذى دخل الميدان أو «راكب الحصان» الساذج الذى أوقعه المتظاهرون وطرحوه أرضًا، فكل هذا المشهد العبثى لم يستغرق أكثر من ٥ دقائق، الأهم بالنسبة لى هو ما حدث بعده، فقد رصدت سيارات محملة بالطوب.
وقفت تلك السيارات وأفرغت حمولتها فى صناديق ضخمة أشبه بصناديق الزبالة الموجودة بالشوارع، وهناك من حملها وصعد واحتل أسطح عمارات ملاصقة لعمارتنا وبدأوا فى إلقاء الحجارة والمولوتوف على المتظاهرين فى الميدان، وبعض الزجاجات الحارقة وقعت على أسوار المتحف. صورت بكاميرتى هذا الاقتحام، وصورت هؤلاء الذين لم يُكشف عن هويتهم بعد، وقدمت ما صورته إلى لجنة تقصى الحقائق التى تشكلت بعد الثورة.. كانت صورهم واضحة وهم يلقون بالحجارة ويتبادلون الإشارات المتفق عليها بينهم باستخدام الأعلام.


الهتافات لم تتعال إلا بعد منتصف ليل 25 يناير.. ومواجهة مع مدفع مياه أول الاشتباكات
ما جرى فى ثورة يناير كان شيئًا آخر، فقد كان «الغزولى» على أعتاب عامه الثمانين، ورغم ذلك قرر منذ اللحظة الأولى، ألا يكتفى بمشاهدة الثورة من «البلكونة»، وحمل كاميرته ووثق كل لحظة، ويوم من أيامها.. وهذه شهادته عما حدث:
«يوم ٢٥ يناير ٢٠١١ كانت فيه دعوات للتظاهر فى ميدان التحرير، احتجاجًا على ممارسات الشرطة.. قعدت طول اليوم أراقب الميدان وما يجرى فيه، وكان لدىّ إحساس غريب إن فيه حاجة حتحصل وقتها.. كان الجو العام متوترًا، أو على رأى عبدالوهاب: (فى الجو غيم)، وكنت أراهن نفسى على أن شيئًا ما سيقع فى هذا اليوم، لكن الساعات مرت ولم يقع شىء ذو أهمية».
«بعد منتصف الليل بحوالى نصف ساعة بدأت تتعالى الهتافات وتقترب منى شيئًا فشيئًا، إلى أن فوجئت بتجمع المتظاهرين فى مدخل العمارة التى أسكنها، وبسرعة أخرجت كاميرتى وصعدت إلى سطح العمارة، وبدأت فى التقاط أول صور للثورة.. ومن فوق السطح لمحت مظاهرة أخرى قادمة من اتجاه نقابة الصحفيين، وعندما نزلت إلى الشارع كانت المظاهرة الجديدة قد وصلت إلى مدخل العمارة، ودخلت معهم الميدان، وسرعان ما انضم حشد آخر من المتظاهرين جاءوا من اتجاه كوبرى قصر النيل».
يقول: «كان العدد هائلًا وغير مسبوق، ورغم سابقة مشاهدتى مظاهرات لحركة كفاية، لكن أبدًا لم تصل لهذا العدد، ورأيت بين المتظاهرين صديقى الناقد السينمائى فاروق عبدالخالق.. كان يهتف معهم من قلبه، فأمسكت به ودخلنا الميدان، وكان أبرز الوجوه الحاضرة هو صديقنا المناضل أبوالعز الحريرى - رحمه الله - الذى اعتلى الهواية الأسمنتية لمحطة المترو وراح يهتف فى حماس».
«ملاحظتى الأولى على المتظاهرين الأوائل الذين دخلوا الميدان هى أنهم كانوا من أبناء الطبقة الوسطى، وهو ما بدا من ملابسهم الأنيقة، وكان بعضهم من خريجى الجامعة الأمريكية وكنت أعرفهم شخصيًا، ما أكد لى أنهم جاءوا من أجل الحرية وليس الجوع».
يقول: «جلسوا فى شكل دائرة عند سور الجامعة الأمريكية، ومع كثافة الأعداد بدأت قوات الشرطة تشعر بالخطر، وجاءت سيارة حريق فوقها مدفع مياه هائل، وبدأت ترش المياه على المتظاهرين بغرض تفريقهم وإخلاء الميدان، وعندها تسلق شاب العربة بمهارة وصعد إلى سطحها واشتبك مع الجندى الذى يمسك بمدفع المياه، انتهى الصراع بأن سقطا معًا على الأرض».
«عندما رأيت هذا المشهد تأكدت أن الحمل ليس كاذبًا، وأن ثورة حقيقية على وشك الولادة.. ففى كل الاحتجاجات السابقة كان الشباب يتفرق بمجرد أن تبدأ قوات الأمن فى إظهار العين الحمراء، لكن الآن أنا أمام موقف مختلف، وأمام شباب قرر أن يقاوم السلطة.. أمام ثورة.. لحظتها قفزت من ذاكرتى كلمات الشاعر الثورى صديقنا أحمد فؤاد نجم: (لكل فعل رد.. ولكل رد صد.. دى المعركة يا واد.. باين ح تبقى جد)».
«كنت من بين الذين أصابهم مدفع المياه، وغرقت ملابسى فى هذا الجو البارد، وواجهت نفسى بشجاعة، واعترفت لها بأنه لا عمرى ولا صحتى يحتملان أدوار الثوار، وأننى يمكننى أن أؤدى دورًا آخر مختلفًا لا يقل أهمية.. قررت أن أسجل بكاميرتى وقائع تلك الثورة».
«على امتداد الأيام الـ١٨ للثورة كانت كاميرتى حاضرة ترصد الأحداث وتطوراتها، بل كانت الأحداث تقع فى حجرى دون جهد منى، بحكم أننى أسكن فى تلك العمارة ذات الموقع الاستراتيجى».
البرادعى لقاها قلبت جد فغادر البلاد
تصاعدت دراما الثورة، ووصلت الأحداث إلى ذروتها بإعلان الثوار تصميمهم على تنحى «مبارك» وإسقاط نظامه. كنت حاضرًا بكاميرتى فيما تلا من أيام، أرصد الحشود والوجوه، إلى أن كان قرار «مبارك» بالتنحى فى ١١ فبراير، والفرحة الهستيرية فى الميدان، وما ظنه الثوار النهاية السعيدة، ثم ثبت أنها لم تكن كذلك. عندما كانوا يحزمون أمتعتهم ليغادروا الميدان كنت أرى أنها أكبر غلطة يرتكبونها فى حق أنفسهم وحق ثورتهم. كانت «يناير» ثورة سيئة الحظ، بما فى ذلك حظها مع الرجل الذى كان فى إمكانه أن يكون بطلها وقائدها، وأثبتت الأحداث أنه لم يكن مؤهلًا لهذا الدور، ولم يكن الشخص الذى يستطيع أن يقود ثورة شعبية.. خذلها «البرادعى».
أنا نفسى صدقته فى البداية، وأعجبتنى جسارته فى تحدى نظام «مبارك»، وذهبت أبحث عن جورج إسحق حتى عثرت عليه فى مجموعة مدارس يعمل فى إدارتها، وحررت استمارة تؤيد مجموعة المطالب التى أعلنها «البرادعى»، لضمان حرية الانتخابات القادمة فى مصر، وكان «البرادعى» وقتها بمثابة رسول الحرية والأب الروحى للثورة والمبشر بها.. ويبدو أنه فوجئ بالثورة.. لقى الحكاية قلبت جد.. فتركها وسافر. لم أطفئ كاميرتى بعد «يناير» وأيامها، فما حدث فى الميدان بعدها كان لا يقل إثارة، وصورت ووثقت كل «المليونيات» التى شهدها الميدان، بما فيها ما سمى بـ «مظاهرة قندهار» التى دعت إليها القوى الإسلامية والسلفية، وبدا منظر الميدان، وكأننا فى احتفال لجماعة «طالبان».. صورت ما حدث يومها بما فى ذلك السيارات والأتوبيسات التى نقلت هذه الحشود من كل المحافظات.
تجمع عندى عشرات الساعات الحية التى توثق ما حدث فى مصر منذ شرارة «يناير»، وأتيح لى من خلال «صندوق التنمية الثقافية» فى فترة وجود الدكتور عماد أبوغازى على رأس وزارة الثقافة، أن أصنع فيلمًا بعنوان «الشهيد والميدان» به جزء مما صورته، لكن الأرشيف الأكبر لثورة يناير وتوابعها ما زال فى بيتى، يحتاج إلى جهة تسهم فى ظهوره بشكل فنى وتمويل لعمليات المونتاج والمكساج، حتى يكون بحق وثيقة للأجيال المقبلة.