رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: طفل صغير يتحدث إلى الله


اتفقنا أن نلتقى فى بيت صديقنا المشترك محمد شهدى صباح الجمعة، فهناك فى بولاق أبوالعلا سيتمكن «مراد» من اللعب والحركة بحُرية أكثر، وسنتحول أنا وشهدى إلى أراجوزات، مهمتنا إسعاد مراد والقضاء نهائيًا على أوهام «مرض التوحد»، الذى يقول الأطباء إن الطفل مُصاب به ويمنعه من الكلام والتركيز فيما حوله، وجاءتْ تحمله على ذراعها بحرص مبالغ فيه، وقمنا إليه نداعبه ونبدأ حفلة العلاج المتفق عليها، لكنه تشبث بكتفها وأشاح بوجهه بعيدًا، وثبتّ عينيه فى مكان بعيد داخل الشقة، فراقبنا اتجاههما حتى وصلنا إلى المروحة القديمة المركونة بجوار المكتبة، ونظرنا جميعًا إلى بعضنا البعض فى أسى، لكن شهدى لم يفقد الأمل وقال ضاحكًا: «شوية كده وهياخد ع المكان».
وجلسنا على الكنبة فى مدخل الصالة وانشغلنا بالترحيب ببعضنا البعض والسؤال عن الأحوال بعد غياب طويل، وشربنا الشاى وعيوننا الست تتبادل النظر إلى مراد الذى استقر أمام المروحة محدقًا فيها، ولخصتْ «مشيرة» القصة: «نفسى أسمع كلمة ماما مرة، أسمع أى كلمة.. هو دلوقتى عنده أربع سنين، واتشخص إنه مريض «توحد» من سنة ونص تقريبًا»، ووسط دموع غزيرة انتفخت معها أنفها واحمرت، قالت إنها داخت على دكاترة من كل التخصصات لغاية ما عرفت حكاية التوحد، وإن الكارثة إن مافيش مكان محترم فى مصر بيعالج التوحد، وقال شهدى: ولا توحد ولا حاجة.. وقلتُ: ما تكبريش الموضوع، وقمتُ إليه وفى يدى حلويات وبسكويت وكيس عسلية، مراهنًا على خفة دمى وقدراتى الفائقة فى جذب انتباه الأطفال بحكم خبرتى فى تربية ثلاثة أولاد جعلتهم عفاريت، بالإضافة إلى عشرات من أبناء الأشقاء والجيران، لكن مراد خذلنى تمامًا وتعامل معى باعتبارى «عدم»!، هواء يداعب شعره الأسود الناعم ويتخلل أصابعه الرقيقة الممتلئة قليلًا كخدوده الجميلة وملامحه «المحندقة» وعينيه الصافيتين تمامًا حتى فى تحديقهما نحو الفراغ، فلم تكن المروحة هدفًا محددًا بقدر ما كانت كائنًا يأخذه بعيدًا عنّا، وحاولتُ مجددًا مقلدًا الكلاب فى نباحها والقطط فى نوائها والقطارات فى صفيرها والعصافير فى زقزقتها، ولا شىء! مراد.. هناك محلقًا لا يرى أصابعى الخمسة التى تتصارع كى ينظر إلى أحدها ويبادلنى ابتسامة، جربت الشخللة بالمفاتيح ومناداته بكل أسماء الدلع التى نزلت فى القواميس، وفجأة رأيت نفسى تافهًا وعبيطًا فى حضرة راهب صغير وحيد مع الله، كنت أعرف أن أربع عيون تراقبنى وتنتظر نتيجة تليق بالثقة «الكدابة» التى كنت أتحدث بها عن بطولاتى السابقة، وتراجعتُ خطوات نحو الكنبة ورأيت اليأس فى عينىّ شهدى والحسرة فى عينىّ مشيرة وقلبها، وبكتْ بكاءً موجعًا «أنا ع الحال ده بقى على طول، جربنا مراكز تخاطب وسلوك، جربنا كل أنواع الحضانات تقريبًا، دبرنا فلوس لدكاترة نفسيين ومخ وأعصاب.. ومش عارفه أعمل إيه؟».
وبكت مشيرة بكاءً موجعًا راح يتصاعد ونظرات يأس وقلة حيلة أتبادلها مع شهدى، فهذه البنت «مشيرة أحمد»، التى كبرت وتزوجت وأنجبت مراد، عرفناها صغيرة مهووسة بالفن والتمثيل، سمراء بعيون بُنية، تقرأ شكسبير وديستوفسكى وخيرى شلبى وإبراهيم أصلان، وتحلم بالبطولات المطلقة بعد أن ظهرت فى فيلم «عمارة يعقوبيان» ٢٠٠٦.
ومع ثورة يناير ٢٠١١، كانت مشيرة فى الميدان برصيد كبير من الأعمال الفنية التى تؤهلها تمامًا للظهور والاستعراض، فهى الممثلة التى جسدت شخصية «دلال» فى فيلم «عصافير النيل» عن رواية إبراهيم أصلان وإخراج مجدى أحمد على الذى أسند إليها دور «رقية» فى مسلسل «مملكة الجبل» ٢٠١٠، إلى جانب أعمال أخرى مثل مسلسلى «الحارة ولحظات حرجة»، كان بإمكانها مغازلة كاميرات التصوير بماكياج صارخ أو حتى صامت وحشر نفسها فى الصور بعلامة النصر أو بعلَم مصر يرفرف فوق شعرها الغجرى المجنون لتأتى إليها البطولات، لكنها لم تفعل ولم تجلس فى خيمة الفنانين كما فعلت ممثلات مغمورات، وحرصتْ على أن تكون وسط الناس ببنطلون جينز وتى شيرت.
وانفضتْ الثورة، وهبش من هبش وتربّح من تربح، وظهر فى الصور من ظهر وتوزعت البطولات، وانزوتْ «مشيرة أحمد» مثل كثيرين من الطيبين البلهاء رافضة دخول مزاد الثورة، وانقطعتْ تليفونات المنتجين والمخرجين، وتم دفن أحلام مشيرة الفنية التى قالت طظ فى الفن اللى يخليك كلب تتسول الأدوار، وقررتْ مواصلة الحياة بقصة حب اكتملت بالزواج من المذيع التليفزيونى المهذب «محمود يوسف»، وبينهما وبيننا الآن «مراد» الذى ما زال يُحدق فى الفراغ بحثًا عن الله، وعن إجابة لسؤال أمه المسكينة: متى يقول ماما؟!