رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البابا كيرلس الرابع.. أبو الإصلاح القبطى


وُلد «داود توماس باشوت» فى بلدة الصوامعة الشرقية التابعة لمركز جرجا سنة ١٨١٦م. تربى فى الكتاتيب البسيطة، التى كانت تُعّلم اللغة العربية ومبادئ اللغة القبطية وبعض الحساب الخاص بالزراعة وحفظ المزامير. وقد عمل مع والده فى الزراعة واختلط بالعربان المجاورين للقرية وتعلم منهم ركوب الخيل، واشتهر بالفروسية ومعرفة الصحراء.

وعندما بلغ ٢٢ عامًا انطلق الشاب داود إلى دير الأنبا أنطونيوس بالبحر الأحمر حيث تتلمذ على يد رئيس الدير، وقد أظهر حنكة ودراية فى تدبير الأمور. وبعد سنتين من رهبنته توفى رئيس الدير فاتفق الرهبان على تزكيته رئيسًا وهو يبلغ من العمر ٢٤ عامًا، فاستدعاه البابا بطرس الجاولى (١٨٠٩ ــ ١٨٥٢م) البطريرك ١٠٩ وأسند إليه رئاسة الدير عام ١٨٤٠م، وسماه باسم داود ــ أى اسمه الأصلى ــ فعاد القس داود الأنطونى إلى الدير وقام بكثير من أعمال الإصلاح، فوفر للدير ما يحتاجه من طعام فى مواعيد محددة حتى لا يتعب الرهبان، كما اهتم بحياتهم الروحية وتطبيق قوانين الرهبنة ونُظمها، لأنه كان راهبًا حقيقيًا وليس بالصورة والزى. وفى أثناء إقامته بعزبة الدير فى بلدة «بوش»، أحس باحتياج المكان إلى مدرسة، فعمل على إقامة مدرسة وفتح بابها لمن يريد المعرفة.
كان البابا بطرس الجاولى البطريرك ١٠٩ عالمًا بقدرات القس داود وحكمته، وعندما صادفته مشكلة فى الحبشة على إثر خلاف نشأ بين المطران القبطى الأنبا سلامة ورجال الدين الأحباش هناك، حيث أراد المطران منعهم من بعض العوائد التى لا تتفق مع المفاهيم الصحيحة للمسيحية، وخشى البابا من انسلاخ الأحباش عن الكنيسة القبطية، فأرسل لهم القس داود الذى استطاع أن يحرز نجاحًا فى جميع الأمور الشائكة، التى كانت تحدث بالأراضى الحبشية. وقد عاد القس داود إلى مصر فى ١٧ يوليو ١٨٥٢م وكان البابا بطرس الجاولى قد تنيح فى ٥ أبريل ١٨٥٢م.

اجتمع الأساقفة والشعب كالمعتاد بعد انتقال البطريرك لاختيار الشخص المناسب، ورشح بعضهم القس داود. لكن كانت هناك مجموعة أخرى معارضة تريد انتخاب أسقف أخميم بطريركًا، مخالفة بذلك تقاليد الكنيسة وقوانينها الراسخة، وقد قامت عدة مشاحنات بين الطرفين وتدخلت الدولة بناء على طلبهم. وبعد الكثير من المناقشات استقر الأمر على رسامة القس داود مطرانًا عامًا باسم الأنبا كيرلس فى ١٧ أبريل ١٨٥٣م! حتى إذا ما برهن على كفاءته تم تقليده بطريركًا. لكن هذه الرسامة كانت بالحقيقة رسامة أسقف للإسكندرية إذ لا تصلح رسامة مطران فى غيبة البطريرك، أما تسمية الرتبة فقد كانت وسيلة لتهدئة خاطر الوالى. لأن القاعدة الجوهرية أنه لا يُقام أسقف على إيبارشيتين ولا يُقام أسقفان على إيبارشية واحدة كما يحدث الآن! ومازالت التزكية التى قدمها جمهور الناخبين من أساقفة وأراخنة ترشحه لمنصب البطريركية باسم «القس داود» محفوظة بمكتبة المتحف القبطى بمصر القديمة. ونفس هذه الاعتراضات قُدمت فى انتخابات ١٩٧١ التى أنا بنفسى تقدمت بها فى انتخابات ٢٠١٢ حرصًا على احترام قوانين الكنيسة وتقاليدها، لكن لم يستمع لها الأساقفة المتكالبون على الكرسى!، إذ إن التاريخ أثبت ــ أنه طوال فترة اعتلاء الكرسى من أحد الأساقفة، حيث بدأت تلك المخالفات عام ١٩٢٨ برسامة البابا يؤانس البطريرك ١١٣ ــ فإن الاضطرابات والمشاكل تجتاز أنحاء القطر وأيضًا الكنيسة، وهذا ما نجنيه الآن!.

وما إن تولى البابا كيرلس الرابع أمور البطريركية قام ببناء الكلية البطريركية القبطية، وهى أول مدرسة أهلية للقبط فى القاهرة، وكان يُدّرس فيها اللغات القبطية والتركية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية والعربية، بالإضافة إلى الرياضيات والجغرافيا والعلوم، وفتحها لجميع للطلبة، ووزع الكتب والأدوات مجانًا، وشجع الزوار الأجانب على زيارتها. كما افتتح مدرسة للبنات فى حى الأزبكية، فكانت بالحقيقة أول مدرسة تُنشأ فى مصر لهذا الغرض منذ الفتح العربى، فرد بذلك إلى المرأة المصرية اعتبارها وكرامتها، وأنقذ نصف الأمة من ظلام الجهل. ثم أنشأ مدرستين فى حارة السقايين للبنين والبنات، كما أنشأ لهم كنيسة، وكان يزور هاتين المدرستين ويتفقدهما مرة كل أسبوعين، وأنشأ أيضًا مدرسة فى المنصورة. وتعاون مع الحكومة فى إرسال أول قبطى فى بعثة حكومية إلى أوروبا عام ١٨٥٥م ــ كما اهتم بإحضار أول مطبعة أهلية، فأرسل إلى مطبعة بولاق الأميرية ٤ شبان من الأقباط ليتعلموا فن صف الحروف والطباعة، وقامت البطريركية بصرف المرتبات والملابس اللائقة، وعهد إلى الخواجة «رفلة عبيد» باستحضار أدوات المطبعة من أوروبا.

وصلت المطبعة إلى الإسكندرية وكان وقتها البابا كيرلس فى دير الأنبا أنطونيوس مهتمًا ببناء سور وتجديد قلالى الرهبان. وما إن علم بوصول المطبعة طلب من وكيل البطريركية بالقاهرة استقبال المطبعة من باب البطريركية بموكب حافل يسير فيه رجال الدين بملابسهم الرسمية وينشد التلاميذ أناشيد الفرح. واهتم بإعادة استعمال التقويم القبطى اعتبارًا من ٧ يوليو ١٨٥٥م بعد أن كان قد توقف، وظل مُستعملًا إلى أول سبتمبر ١٨٧٥م عندما أبدل بالتقويم الغربى المُستعمل الآن.
ظل يتعب فى خدمة أمته القبطية والمصرية دون كلل أوملل حتى رحل إلى عالم السمائيين فى ٣٠ يناير ١٨٦١م.