رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: المصريون والتصوف.. رؤية ضد التشدد


ورد ضمن الآراء التحليلية للحادثة القريبة البشعة بمسجد الروضة ببئر العبد بالعريش، أن المسجد خاضع للصوفية هناك، وأن التنظيمات الدينية المتشددة استهدفته، لأن جهلها لا يعتبر التصوف منهجًا إسلاميًا شرعيًا، بل طقوسًا شِركِية وتصورات وهمية وأقوالًا ملغزة لا قيمة لها ولا أهمية!.
هذا بعض ما قيل حينذاك، أقر بصحة القول من أقر وأنكره من أنكر، لكن لا ريب أن موقف المتشددين من التصوف سلبى، ومن أنكر إنما أنكر ارتباط الحادثة نفسها بالصراع الدائر بين الصوفية وتنظيمات المتشددين، ولم ينكر جحود هذه التنظيمات للتصوف نفسه!.
لا أريد الخوض الآن فيما بين أهل الحقيقة وأهل الشريعة، على تباين درجاتهم فى اللين والشدة، من مشكلات ومجادلات «من أسماء التصوف والحقيقة، وعليه فأهله أهل الحقيقة»، لا أريد الخوض فى الأمر، لأن الموضوع بذاته ليس موضوعى، الذى أريد طرحه هنا، لكن لا بأس بالقليل لاستيفاء الفكرة.
يرى أكثر أهل الشريعة التصوف بدعة؛ فليس من أصول الدين ولا فروعه.. والخطير أنهم يرونه سبيلًا باطلًا بالجملة؛ يتوسل إلى الله بالموتى ويستبدل الانعزال بالاجتماع ويؤثر المعاملات على العبادات، ويسمح بالاختلاط ويبيح الذكر بالطبل والرقص وله مصطلحات ليست مما عرفه الصحابة والتابعون الذين كشفوا أنوار القرآن وأحيوا السنة المطهرة بلا زيادة ولا نقصان!.
فى المقابل يرى المتصوفة أهل الشريعة حُفّاظًا لا أهل أفهام وأوصياء على الآخرين لا حراسًا للدين ومشغولين بالمبانى لا المعانى، ويرونهم يُخرِجُون المسألة من معناها البعيد المقصود، وهو الحب الإلهى، إلى معناها القريب المظنون، وهو إهلاك الأنفس بين الخوف والرجاء- الخوف من العقاب والرجاء فى العفو!.
رحى دوّارة بين الطائفتين لا تتعطّل، لكن لا منتصر ولا مهزوم ببلادنا؛ فالناس يستمعون لكلام أهل الشريعة ويستريحون لكلام أهل الحقيقة!.. فى مصر، بالذات، ولا يخلو موضع فيها من مقامات المشايخ وحكايات المجاذيب وأوراد أصحاب الطرق؛ لا توجد توقعات سيئة حاضرة أو محتملة للعلاقة بين حاملى القرآن والسنة كالأزاهرة، ومعظمهم شيمته الاعتدال، وبين الدراويش والبهاليل والمفكرين الذين انصرفت هممهم إلى علوم الباطن مع عنايتهم بالظاهر!.
الصوفية يؤمنون إيمانًا قطعيًا بما شرعه الله للعباد من عقائد وأحكام كأهل الشريعة بالضبط، لكن غلبة العاطفة عليهم جعلت تفقههم للنصوص مختلفًا، وأخلت نفوسهم من المرض والغرض وكراهية الملل الأخرى والأفكار المغايرة!.. بقى فى الفقه الإسلامى الموروث كثير من الطباع الجامدة والصعبة، بعضها انعكس فى سلوك المتدينين العاديين والواعين بمقادير متفاوتة، «حسب التربية والثقافة والاستعداد النفسى للتقبل أو الرفض»، لكن انعكست، برمتها، فى التنظيمات الدينية المتشددة، مضافة إلى عوامل أخرى، فكفّرت هذه التنظيمات الآخرين وأوغلت فى الدماء!.
مصر المحروسة بأوليائها الصالحين، كما يعتقد الصوفية ويشاركهم فى اعتقادهم الأكثرون، لا تُؤْوِى المتطرفين ولا تفتح بابها لأنانى لعين؛ يريد لرايته السيادة ولسيفه القيادة.. بل تتطلع إلى التواضع والبساطة وتحث على الأمن والسلام!.
نشأنا، كمصريين، فى بيوت تحترم رجالًا عرفوا الله، فحازوا المقامات فى معرفته تعالى، وتبرّهم كالوالدين، وتجعل لمريديهم من أطعمتها وأشربتها نصيبًا، وتوقد شموعها عندهم، وتدعو لأنفسها ولأبنائها من فرجات أخشابهم، وتصلى مسرورة محبورة، فى مساجدهم، وتستغفر الله كثيرًا كثيرًا، لو جحدهم جاحد أو ذكرهم ذاكر بسوء!.
ولم يكن المقابل قط أنها لا تُكبِر أهل العلوم الشرعية، بل كانت وسطًا بين الإيمان بالدين فى صورته المنقولة، وممارسته بأشكال خاصة تتمم للعقل فلسفته الأبهى وللوجدان لذته الأشهى.. وهكذا الأذواق العالية!.
التصوف هو عقيدة المصريين الشعبية الموازية للكتب العلمية والمناهج التعليمية بشأن الإسلام الحنيف، وهو عمل الأرواح لا الجوارح، وسلوك المشتاقين لا المقهورين، وهو الأقرب إلينا كمصريين حقًا؛ فنحن نحب العالم، ولا يحس الغرباء لدينا بغربتهم، ونؤثر الوداعة على العداوة، ونقدّر الحياة تقديرًا غاليًا يضاعف تمسكنا بها وحرصنا عليها، ومنذ ماضينا التليد لدينا يقين هائل بخلود موتانا وسرهم ومددهم.
التصوف لُطف كله وحِرز كله؛ فلا يُؤْذِينا فى أنفسنا، ولا يُدْخِل بيننا شيطانًا يفتّت اتحادنا، وما دروبه إلا كأشعة الشمس من أيّها يُتَوَصّل للقرص نفسه، كما قال رجاله أنفسهم، وهو الأليق بطبعنا الودود وطبيعتنا المتسامحة، وهو الذى يمحو فتن الأرض وينفع الأصفياء «يوم لا ينفع مال ولا بنون».