رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ما لن يُنشر عن قضية الإمام الأكبر مع الصحافة إلا هنا «الأخيرة»

محمد الباز يكتب: هزمنا شيخ الأزهر في المحكمة.. وهزمنا أنفسنا أيضًا

عادل حمودة - د. محمد
عادل حمودة - د. محمد الباز

◘ عندما حضر السناوى للتضامن معنا سأله صحفى شاب: «توقعك إيه للقضية يا أستاذ عادل؟».. فقال لـ«حمودة»: «عمرنا راح بلاش.. لا يعرفنى ولا يعرفك»

◘ وائل الإبراشى قال لى: «لو دخلت السجن ستدخل المجد الصحفى من أوسع أبوابه».. فقلت له: «هتنازل ليك عن السجن وخد أنت المجد»

◘ موظفو مكتب شيخ الأزهر جاءوا إلى قاعة المحكمة مبكرًا جدًا استعدادًا للاحتفال بالنصر الكامل علينا

◘ ممدوح حمزة جاء إلى المحكمة ليتحدث عن المنشطات الجنسية

كانت تربطنى علاقات ود ومحبة بعدد كبير من الصحفيين والإعلاميين، لكننى كنت أعرف أنهم جاءوا جميعًا إلى قاعة محكمة جنايات الجيزة، للتضامن أولًا مع الأستاذ عادل حمودة وليس أنا، فقد كان هو رمز القضية لاعتبارات كثيرة، منها تجربته المهنية العريضة وعمره وتأكيده الدائم والمتواصل على أنه يخوض حربًا مقدسة من أجل حرية الصحافة، وأن الدولة كلها تتحالف ضده لتزج به فى السجن. وعندما كان يتبقى لدى أحد منهم وقت أو اهتمام كان يتضامن معى.
قبل أن تبدأ الجلسة الأخيرة فى القضية فى ١٢ أكتوبر ٢٠٠٨، جرت عدة مواقف مضحكة، وكان غريبًا أننا نبالغ فى الضحك والهزار، ربما لتخفيف التوتر البادى على الوجوه، وربما لأننا كنا نخفى خوفنا من مصير مجهول بضحكات بلا معنى.

حضر الأستاذ الكبير عبدالله السناوى الذى كان وقتها رئيسًا لتحرير جريدة العربى مبكرًا جدًا، وقف أمامنا، كنا نجلس فى الصف الأول من صفوف القاعة، كان يتحدث مع صحفى شاب، وإذا به يلتفت وهو يضحك بصوت عالٍ، ويوجه كلامه للأستاذ عادل، ويقول: «أنا وأنت عمرنا راح بلاش يا عادل، الواد بيقول لى: إيه توقعك يا أستاذ عادل للقضية اليوم، طلع لا يعرفنى ولا يعرفك».
ابتسم عادل بمرارة، فقد كان هذا أحد أوجاعه، فهو صحفى كبير أسس مدرسة خاصة به، وخاض معارك يتفوق عددها على عدد سنوات عمر تلاميذه مجتمعين، لكنه كان يرى أمام عينيه بعض من رباهم، وفتح أمامهم الطريق أكثر شهرة ونجومية منه وثروة أيضًا.
فى لحظات صفاء الأستاذ، كان يخفف من وطأة ذلك عليه، فتلاميذه نجوم تليفزيونيون وطبيعى أن يعرفهم الناس، وهو ما حدث معه بعد ذلك عندما خاض تجربة التقديم التليفزيونى بعد ثورة يناير على قناة «سى بى سى»، من خلال برنامجه «كل رجال الرئيس»، ثم واصل بعد ذلك ببرنامج «آخر النهار» على قناة النهار التى ظل فيها لأكثر من عامين، قبل أن يغادرها مودعًا العمل التليفزيونى كله ببرنامج «حكاية وطن»، الذى عرض فيه جانبًا من ذكرياته السياسية والصحفية، عبر استعراض حياة وتجارب من عرفهم.
كانت لدى عبدالله السناوى نظرية غريبة جدًا فى مسألة احتمالية تعرضنا للسجن، قال ببراءته وشفافيته: «على فكرة يا عادل، لو صدر الحكم عليكم بالحبس، هتكون المشكلة عندك إنت، إنت مش محتاج الحبس ده فى حاجة، تجربتك المهنية اكتملت خلاص، لكنه هيفرق مع محمد كتير، هو لسه قدامه المستقبل فى المهنة، وتجربة السجن مهمة».
لم أستخف بكلام عبدالله السناوى، فأنا أقدره تمامًا، لكننى شعرت أنه يتحدث فى وادٍ ونحن فى وادٍ آخر تمامًا، فقد دخلنا المهنة من بوابة مختلفة تمامًا، ليس من أبجدياتها أن السجن يمكن أن يكون تجربة مهمة بأى معنى من المعانى، فهو تجربة بغيضة إنسانيًا، ثم إن من يدخلون السجن لا يخرجون منه إلا بندوب فى الروح، وما أغنانى عن ندوب الروح هذه.
اعتقدت أن السناوى يسخر من الموقف كله، وعندما نظرت فى وجهه، وجدته يتحدث بجدية شديدة، يعرفها عنه كل من يعرفه ويحبه، وأنا من هؤلاء.
كان مزعجًا أيضًا ما تعامل به موظفو مكتب شيخ الأزهر، الذين جاءوا إلى قاعة المحكمة مبكرًا جدًا، اعتقادًا منهم أنهم سيحتفلون بالنصر الكامل على خصومهم وخصوم الشيخ، فقد كانوا على ثقة أننا سندخل السجن لا محالة، فقد أقسم شيخهم بعمامته أن يفعلها، فما يقوله الشيخ بالنسبة لهم نافذ لا محالة.
أفزع هؤلاء الموظفين، أن تكون معظم وسائل الإعلام المصرية والعربية والعالمية حاضرة وبقوة، قال أحدهم: أنا مش عارف الإعلام مهتم بيهم أوى ليه كده، هم فاكرين نفسهم مين... وائل الإبراشى.
عندما سمع عادل حمودة هذه العبارة التى نقلتها لنا إحدى الزميلات، ابتسم بسخرية شديدة، وقال: نعمل إيه جهلة.
وائل الإبراشى نفسه جاء متضامنًا بابتسامته العريضة، قال لى: أنا بحسدك والله، قلت له: على إيه؟ قال: لو صدر الحكم بسجنك اليوم ولو ٦ شهور فستدخل المجد الصحفى من أوسع أبوابه، فقلت له: إيه رأيك أتنازل لك عن الـ ٦ شهور سجن دول وتدخل أنت المجد ده من أوسع أبوابه.. وضحكنا.
لفت انتباهى وجود المهندس الاستشارى ممدوح حمزة فى المحكمة مبكرًا أيضًا، كان عادل صاحب فضل عليه، فقد سانده بقوة عندما اتهم بالتخطيط لقتل أربعة من رجال الحزب الوطنى هم: أحمد فتحى سرور وكمال الشاذلى وزكريا عزمى ومحمد إبراهيم سليمان، وتم احتجازه فى بريطانيا على ذمة القضية التى أنقذه منها هؤلاء عندما شهدوا لصالحه بتعليمات واضحة من الرئيس الأسبق مبارك.
لم يتوقف ممدوح عن الكلام، شعرت أن نشاطه زائد على الحد، لم يترك بنتًا فى المحكمة تقريبًا إلا وغازلها، اقترح علينا اقتراحًا طلب موافقتنا عليه، قال إنه يمكن أن يطلب من العاملين معه فى مكتبه وشركته، أن يأتوا إلى المحكمة ويكونوا مستعدين، لو صدر قرار بحبسنا، ويعلنوا اعتصامًا فى بهو دار القضاء العالى حتى يتم الإفراج عنا، ووجدته يقف ويقول: لن نخرج من المحكمة إلا بكم وهذا كلام نهائى، المدهش أن ممدوح وسط هذه التهديدات لم يتوقف عن الكلام عن آخر ما وصل إليه العالم من منشطات جنسية جربها هو أو لم يجربها.
كان اليوم عصيبًا، بدأ فى العاشرة صباحًا وأبى أن ينتهى إلا فى التاسعة مساءً، عندما دفعنا الـ١٦٠ ألف جنيه غرامة، وخرجنا لنلتقط صورة تذكارية أمام دار القضاء العالى، نسجل فيها اللحظة التى تعاملنا معها على أنها تاريخية، وكانت كذلك بالفعل.
لم تكن قضيتنا هى الوحيدة التى تنظرها المحكمة فى هذا اليوم، كانت هناك قضايا أخرى، أصحابها متهمون بالتورط فى وقائع قتل وسرقة ومخدرات وخلافه، وكم كان بائسًا بالنسبة لنا أننا نحاكم فى نفس القاعة مع مجرمين جنائيين، بعضهم حصل على إعدام بالمناسبة، وهو ما يجدد مطالبنا بأن تكون هناك محاكم متخصصة فى نظر قضايا الصحافة وحدها، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.
بدأت مرافعات الدفاع.
تحدث الجميع المستشار فتحى رجب، والمحامى الكبير الأستاذ جميل سعيد، والأستاذ ناصر أمين، والأستاذ نشأت أغا، والمحامى الذى جاءنى من المنصورة متطوعًا أحمد الهادى.
كان لكل واحد من هؤلاء المحامين لونه الخاص فيما قاله.
مرافعة فتحى رجب كانت سياسية من الدرجة الأولى، حاول أن يزج فيها باسم الرئيس مبارك أكثر من مرة، على اعتبار أنه أحد مستشاريه القانونيين، وباسم مجلس الشورى أكثر من مرة على اعتبار أنه عضو به.
مرافعة ناصر أمين كانت حقوقية من الطراز الأول، للدرجة التى اعتقدت أنه يترافع فى قضية أخرى، أو على الأقل، فإن ما يقوله أمام هيئة المحكمة الموقرة يمكن أن يقال فى هذه القضية وفى غيرها دون أن يكون هناك أى فارق، وما زلت أذكر ما قاله، من أن المتهمين ضاقوا ذرعًا بما فعله الإمام الأكبر شيخ الأزهر، فصرخوا، فهل نلومهم على مجرد الصراخ سيدى القاضى؟
ما قاله جميل سعيد كان فارقًا جدًا، تحدث كمحامٍ مهنى محترف فى قضية درسها جيدًا، كانت تخريجاته القانونية مهمة للغاية، وتفسيراته لما كتبته ولما تقوله الصورة عبقريًا، كان همه الأول والأخير أن يستبعد تهمة إهانة المؤسسة لأنها تستوجب الحبس، وتكسير تهمتى السب والقذف على أمل أن ننجو منهما أيضًا، وأذكر أننى صافحته بحرارة بعد أن تحدث، وشكرته ليس على وقوفه بجوارنا فقط، ولكن على هذا الأداء الاحترافى الهائل.
الصديق نشأت أغا كان محددًا وواضحًا، فيما طرحه على القاضى، لم يخرج عن موضوع القضية، وكنت قد ركزت معه تحديدًا على تفكيك بعض الألفاظ التى جاءت فى متن المقال، ويمكن أن يفهم منها أن تمثل سبًا وقذفًا فى حق الدكتور سيد طنطاوى، وهو ما نجح فيه إلى حد كبير.
الأستاذ أحمد الهادى الذى لا أعرف كيف أشكره، فعل ما لم يفعله الآخرون، بحث فى أرشيف شيخ الأزهر، قرأ ونقب وحصل على أخبار منشورة فى مجلة الأزهر نفسها، تنتقد بابا الفاتيكان، وما قاله عن الرسول والإسلام، وهو ما دفع به على أساس أن ما كتبناه وقلناه يتسق أساسًا مع ما ذهب إليه الأزهر، وكان الأولى بالشيخ أن يشكر جريدة «الفجر» لا أن يقاضيها.
تحدث الأستاذ عادل أمام القاضى، كانت كلمته قوية، دافع فيها عن نفسه، وبيّن مقصده مما فعلته الجريدة، وعاب على شيخ الأزهر أن يأخذ هذا الموقف، لأنه سبق أن دافع عنه، فلا توجد أى نية سيئة فى موقفنا منه، وكان الأستاذ عادل قد هاجم قوانين الصحافة التى تتجه إلى الإدانة أكثر من اتجاهها إلى البراءة فى مداخلات مع بعض القنوات الفضائية التى جاءت لتنقل الحدث.
لم أتحدث كثيرًا هذا اليوم، قلت كلمة قصيرة أعتقد أنها موثقة على اليوتيوب، أكدت أن ما كتبته ليس إلا نقدًا مباحًا، ولم يكن هناك أى سوء نية فيما جرى، لكن سوء النية يحمله آخرون.
كان هناك ما هو أهم بالنسبة لى.
فقد حصلت على جلسة من جلسات مجمع البحوث الإسلامية، يواجه فيها الدكتور عطية صقر الدكتور محمد سيد طنطاوى، على خلفية ما قاله شيخ الأزهر عن منع فرنسا الحجاب على أراضيها.
اعتبر كثيرون هذا القرار حربًا على الإسلام، وانتظروا من مؤسسة الأزهر أن تقف وبقوة فى وجهه، على الأقل ترفض وتستنكر، لكن الدكتور طنطاوى أمسك العصا من المنتصف، وقال كلامًا مائعًا بالنسبة لكثيرين، فكل دولة أعلم بشئونها ومن حقها أن تأخذ القرار الذى فيه مصلحتها.
فى جلسة مجمع البحوث التى كانت محملة على «سى دى»، قدمته للمحكمة قال عطية صقر لطنطاوى: ما تقوله هو رأيك أنت وليس رأى الإسلام أو رأى الأزهر، أنت لا تمثل إلا نفسك يا فضيلة الإمام.
بنى المحامون على ما قاله عطية صقر دفاعهم، لاستبعاد تهمة إهانة مؤسسة الأزهر، فالأمر ليس ما يتصوره الدكتور طنطاوى من أنه هو الأزهر والأزهر هو، ولكنه لا يعبر إلا عن نفسه، ثم إنه أيضًا ليس حجة على الأزهر، بل الأزهر هو الذى يمثل حجة عليه.
انتهت المحكمة من سماع الدفاع بصبر طويل، فقد كانت القضية الأهم ليس فى قاعة جنايات الجيزة فقط، ولكن فى مصر كلها، رفعت الجلسة للتداول، وكان ذلك فى حوالى الثانية ظهرًا، وكان علينا أن ننتظر ما يقرب من ٧ ساعات لنستمع إلى الحكم الذى كان هناك توقع بأن يكون حبسًا على الأقل لمدة ٦ شهور، هذا غير الغرامة التى قدرنا أنها يمكن أن تكون عشرين ألف جنيه على أقصى وأقسى تقدير.
مضت الساعات السبع ثقيلة فى قاعة باردة.
جربنا فيها الإحساس بالأسر لأول مرة، طلبنا أن نذهب إلى الحمام، وكانت المفاجأة أننا ممنوعون من الحركة إلا بإذن من القاضى، ولما سألنا عن سبب ذلك، قيل لنا لأننا تحت التحفظ على ذمة النطق بالحكم، ووقتها عرفنا أن القاضى بكرمه رفض أن ندخل القفص الحديدى إلى جوار بقية المتهمين الذين يحاكمون فى نفس اليوم، وأن نتابع القضية من القاعة.
حصلنا على الإذن بدخول الحمام وسط حراسة مشددة، فقد رافقنا إلى هناك أكثر من عشرين فردًا من أفراد الأمن كانوا ممسكين بنا، وكأننا نشكل خطرًا على المجتمع، ولا بد من تقييد حركتنا.
دخلنا الحمام صامتين، وخرجنا منه صامتين، مقدرين ربما أن المشهد المفزع الذى جرت وقائعه منذ قليل، ربما يكون أهون المشاهد لو حكم علينا بالسجن، ووجدنا أنفسنا فى سيارة ترحيلات نساق إلى الحبس لتنفيذ فترة العقوبة.
قبل النطق بالحكم طلبنا القاضى إلى غرفة المداولة، فخرجنا من القاعة إليه عبر باب خلفى، فاعتقد الموجودون معنا أن الحكم صدر بالحبس علينا، وأننا فى طريق ترحيلنا، فتعالت الهتافات المطالبة بحريتنا، وحاول البعض اعتراض طريق القوة التى تصاحبنا، إلا أن أحدهم أعلن أننا فى طريقنا للقاضى الذى يريد أن يستوضح منا بعض الأمور.
فى غرفة المداولة فوجئت بهدوء القاضى الذى كان يريد أن يستمع لبعض التسجيلات التى قدمناها، لكن لم نتمكن من ذلك لأعطال فى أجهزة العرض، ووجدنا القاضى يتحدث عن أهمية الكتابة فى موضوعات أكثر قيمة من قضية شيخ الأزهر، قال نصًا: «عندما تخرجون من هنا، هناك قضايا فساد كثيرة تستحق الكتابة، افعلوا ذلك من فضلكم، ولما قلنا له إننا نفعل ذلك بالفعل، ابتسم وقال: أعرف ذلك، لكننا نحتاج ما هو أكثر».
بعث هدوء القاضى وكلامه فى نفسى بعض الطمأنينة، فعلى الأقل يمكن أن يفهم منه أننا لن ننال حكمًا بالحبس، وإلا ما معنى كلامه بأننا يجب أن نكتب عن قضايا الفساد بعد أن نخرج من هنا.
قبل الساعة التاسعة بدقائق دخل القاضى، وجدنا أن عددًا من أفراد أمن المحكمة يقفون أمامنا فى الصف الأول، فنظر إلىّ عادل حمودة بقلق، وقال: فيه إيه، قلت ضاحكًا: تقريبا هيحبسونا، والعساكر دول عشان يمسكونا أول ما يصدر الحكم، ولما وجد أننى أتحدث بابتسامة، قال: يا باااااى عليك.
نطق القاضى بالحكم، غرامة ٨٠ ألف جنيه لكل منا، فتعالت الهتافات من داخل القاعة: يحيا العدل، فقد كان الجميع يتوقع بسبب مجريات اليوم العصيب أن ندخل السجن.
جاء نصيف قزمان رئيس مجلس إدارة «الفجر» بمبلغ الغرامة من بيته، تأخر قليلًا علينا، وعرفنا أن نفق الأزهر كان مزدحمًا، وهو ما زاد القلق، فقد كان علينا أن ندفع لننصرف، وإلا سنظل حتى الصباح، لكن كانت هناك رغبة من الجميع أن نغور من وجوههم، فقد اكتشفنا أننا كنا كهم ثقيل على قلوب الجميع، وأن هناك رغبة فى التخلص منا.
قبل أن يأتى نصيف قزمان، وجدت الإعلامى عمرو الليثى يتصل بى، ويعرض أن يدفع مبلغ الغرامة الخاص بى، فشكرته على موقفه، وهو ما فعله أيضًا الشيخ رجب هلال حميدة الذى أعتز بصداقته، قال لى إنه فى مكتبه بباب اللوق، وبعد دقائق سوف يأتى بمبلغ الغرامة، لكنى شكرته أيضًا، وقلت له إن نصيف قزمان جاء بالمبلغ.
اعتبرت أن ما جرى فى المحكمة انتصار كامل لنا على شيخ الأزهر، فقد خرجنا مما يريده لنا، وكان يحرضه عليه آخرون وهو الحبس، وهو ما يمثل هزيمة كاملة له، لكننى فى اليوم التالى تأكدت أننا لم نهزم شيخ الأزهر فقط، ولكن هزمنا أنفسنا أيضًا.
ما عرفته وأرويه هنا ليس على سبيل اليقين، ولكن هذا ما تردد أن عددًا من رجال الأعمال سارعوا بالإعلان فى الجريدة، وأرسلوا شيكات من باب تعويض الجريدة عن مبلغ التعويض الكبير الذى دفعناه، وهو ما يعنى أن الجريدة لم تدفع مليمًا واحدًا من مبلغ الغرامة، بل حصلت على ما يزيد عليه بكثير.
فى صباح اليوم التالى للقضية، كنا فى مكتب عادل حمودة، ومعنا عدد من الزملاء أعضاء مجلس التحرير، ودون مقدمات وجدته يقول لى: «عاوزين نحط النقط فوق الحروف، مفروض كل واحد يكون مسئول عن اللى بيكتبه، مش معقول كل واحد يكتب حاجة على مزاجه، والجرنان يدفع غرامات بسببه، ومفروض تتحمل جزء من اللى الجرنان دفعه».
دون ترتيب قلت له: «ده صحيح جدًا، مفروض كل واحد يتحمل نتيجة اللى بيكتبه أو بيعمله، أنا عاوز أقول لك حاجة يا أستاذ عادل، أنا طول فترة القضية احترمت جدًا كل اللى قلته فى النيابة والمحكمة والصحافة وحتى لأصحابك المقربين من أنى المسئول عن الورطة اللى حطيتك فيها، لكن ولأن القضية خلصت بأقل الخسائر، فلازم تعرف إن حضرتك اللى حطيتنا كلنا فى الورطة دى، بالصورة اللى عملتها، ولو فيه حد مسئول عن كل اللى جرى يبقى أنت مش أنا».
لم يعجبه كلامى، فأنهى النقاش وبدأنا نتحدث فى موضوعات العدد التالى.
دون أن يدرى هزمنى عادل حمودة، وهزم نفسه بما قاله، لكن بعد ساعات كانت هناك هزيمة أخرى.
جلست مع نصيف قزمان رئيس مجلس الإدارة فى مكتبه، وكان موجودًا معنا نشأت أغا المحامى، ودار حوار أعتقد أنه الأغرب فى حياتى المهنية.
نصيف: الوقتى الأستاذ عادل مشكورًا جاب من بيته ٤٠ ألف جنيه مساهمة فى مبلغ الغرامة اللى دفعناه.
أنا: اللى أعرفه إن الأستاذ عادل طلب منك ٢٠ ألف جنيه على سبيل التعويض لحالة التوتر اللى عاشها فى المحكمة إمبارح.
نصيف: مش صحيح طبعًا... الراجل جاب فلوس من بيته.
أنا: بصرف النظر عن إنى مش مقتنع بده، لكن أنا مستعد أدفع لك ١٠٠ ألف جنيه حالًا، ٨٠ مبلغ الغرامة و٢٠ مساهمة منى لجرنانى.
نصيف مبتسمًا: ده شعور طيب جدًا منك بشكرك عليه.
أنا: لكن قول لى الأول يا دكتور نصيف أنا بشتغل معاك إيه.
نصيف: نائب رئيس تحرير طبعًا.
أنا: حلو.. يعنى أجرى عندكم.. أنا مرتبى عندكم ٢٥٠٠ جنيه، لما بتكسبوا بسببى مبخدش منكم حاجة، فمفروض لما تخسروا بسببى برضه مدفعش حاجة.
نصيف وقد اختفت ابتسامته: يعنى إيه؟
أنا: يعنى أنا شغال معاكم تقريبًا من أربع سنين، إدينى نسبتى من الأرباح فى الأربع سنين دول وأنا متأكد إنها مش هتقل عن نص مليون جنيه، وفى لحظتها هديك الـ ١٠٠ ألف جنيه.
كان طبيعيًا بعد ما قلته أن تنتهى المقابلة، وهو ما جرى.
وللحق فقد عرفت أن زميلتى التى قالت فى بداية الأزمة إنها قد لا تفهم فى الصحافة، لكنها تفهم فى القانون عندما عرفت أن عادل ونصيف كانا يريدان أن أدفع مبلغ الغرامة، واجهت عادل، وقالت له: لو عملت مع محمد كده يبقى ده عارك اللى مش هتخلص منه أبدًا.

لم يكن ما كتبته هنا - وهو جزء من قصة كبيرة - محاولة منى للانتقاص من قدر أحد، لكنه محاولة للتطهّر، وللتأكيد على أن كثيرًا مما تقرأونه على أنه بطولات مطلقة، ليس إلا حلقة من حلقات بؤسنا فى هذه المهنة البائسة.