رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

300 ساعة فى جنوب السودان

أرض التراب والنار«2».. كيف تعيش المرأة في جوبا؟

جريدة الدستور

مع أولى خطواتى على سلم الطائرة، التى حطت فى مطار «جوبا» الدولى، أيقنت أننا لا نعرف أى شىء عن دولة جنوب السودان، سوى اسمها فقط، بالإضافة إلى معلومة أنها تلك البلاد التى انفصلت عن السودان، وأصبحت دولة مستقلة منذ ٢٠١١.
كنت أتخيل أن الرحلة، التى أقدمت عليها فى الذكرى الرابعة لنشوب الحرب الأهلية، التى بدأت فى ديسمبر ٢٠١٣، لن تمتد سوى يومين أو ٣ فقط، ثم سأتمكن من رصد كل شىء هنا، إلا أن المشهد منذ البداية جعلنى أغير رأيى تماما، بعد أن وجدت نفسى فى أرض غزيرة الخيرات، تتنوع فيها العادات والتقاليد بشكل مدهش، لتستمر رحلتى إلى «بلد الخير» -الذى يتوارى خلف الحروب التى دمرته- نحو ١٢ يومًا.
وخلال تلك الرحلة تجولت فى العاصمة جوبا، وذهبت إلى ولاية بور، التى أبادتها الحرب، ورصدت ملامح هذه الصراعات ونتائجها على الأرض، والتقيت سياسيين ومسئولين، وتحدثت مع مواطنين، لأنقل صورة كاملة عن هذا البلد المجهول لنا كمصريين، رغم اشتراكنا سويا فى شريان جامع واحد، هو نهر النيل، الذى يربط بلدينا.
فى الحلقة الثانية، سيكون حديثنا عن المرأة فى جنوب السودان، التى بخلاف الصورة المتجسدة لدى كثيرين، تتمتع بحقوق تفوق مثيلاتها فى دول أخرى، فهناك توجد الوزيرة والبرلمانية، وصولًا إلى الباحثة عن «لقمة العيش».

نيابية: ربع تشكيل البرلمان سيدات.. الأمية أكبر مشكلاتنا.. ونواجه الصراعات بـ«نساء ضد الحرب»
البداية عند «مارى نياولا»، النائبة فى برلمان جنوب السودان منذ ٢٠٠٥ بـ«التعيين»، التى تمكنت خلال هذه الفترة ــ هى وغيرها من عضوات المجلس ــ من تحقيق نجاحات كبيرة.
استهلت «مارى» حديثها بالقول: إن «المرأة فى جنوب السودان مكافحة ومناضلة، لكنها تعانى من عدم حصولها على بعض الحقوق»، لافتة إلى أن المرأة الجنوب سودانية كان لها دور فى إيقاف الحرب الأهلية، وذلك من خلال حوارات مع سيدات الشمال، كما أنها كانت الضحية الأولى لتلك الحرب، سواء بقتلها أو بقتل أبنائها أو زوجها. وعن المرأة فى برلمان البلاد، قالت: إنه بتوقيع اتفاقية السلام الشامل فى ٢٠٠٥، التى بموجبها تم منح الجنوب حكمًا ذاتيًا، تم تعيين عدد من السيدات فى البرلمان، وكانت هى واحدة منهن، مشيرة إلى أن البرلمان فى ذلك الوقت كان يتم اختيار كل نوابه بـ«التعيين». وأضافت: «من خلال البرلمان، الذى تُمثل فيه النساء بنسبة ٢٥٪، استهدفنا توعية المرأة بدورها فى بناء الدولة داخل جوبا والولايات الأخرى، إلى جانب مواجهة الخوف النفسى الذى ينتابها، وتشجيعها على الخروج والمشاركة السياسية، وليست الاجتماعية فقط». ورأت أن السبب وراء انخفاض نسبة مشاركة المرأة فى البرلمان، هو اعتقاد الغالبية العظمى فى جنوب السودان، بأن المرأة ليس لها دور نافع وتفتقد المسئولية، ولا يمكنها المشاركة مع الرجل، لافتة إلى أن ذلك شكل صعوبة كبيرة، باعتبار أن الأمر «متجذر فى المعتقدات والثقافة»، لكنهن نجحن فى تغيير هذه النظرة. وبسؤالها: «كيف وصلت العديد من النساء إلى مناصب قيادية فى ظل هذه الظروف الصعبة؟»، أجابت: «وصول السيدات الجنوبيات إلى مناصب قيادية جاء عبر سنوات من النضال، تضمنت إقامة ورش عمل للتوعية بأهمية دور المرأة فى المشاركة وإبداء آرائها فى جميع المجالات، دفاعًا عن حقوق الدولة، وحقوقها التى نص عليها الدستور». وأضاف: «عقد العشرات من هذه الورش حقق نتائج إيجابية، وأصبح للمرأة دور فعال فى العديد من الوظائف والمناصب». واعتبرت أن من ضمن النجاحات، التى حققتها المرأة مشاركتها فى الانتخابات التى جرت بعد توقيع اتفاق السلام الشامل بـ٣ سنوات، وهو ما أتاح الفرصة لمشاركة عدد أكبر من السيدات فى البرلمان. ولم يقتصر الأمر على الانتخابات، وتعدى للمشاركة فى الملفات المجتمعية، وهو ما تمثل فى تدشين منظمة باسم «نساء ضد الحرب» للدعوة إلى السلام، حسب «مارى»، التى أضافت: «أطلقت هذه المنظمة مجموعة من البرامج لتوعية السيدات، إلى جانب برامج صحية وتعليمية، والمشاركة فى حملات لتنظيف الشوارع، فضلًا عن إنشاء مدرسة ومستشفى». وذكرت أن من أكبر المشكلات التى واجهت المرأة فى جنوب السودان، هى الأمية وحرمانها من التعليم، وقالت: «نظرًا لأن والدى كان متعلمًا، اهتم للغاية بتعليم أبنائه حتى التخرج»، مشيرة إلى أن أسرتها كانت «من ضمن ٤ أسر فقط علّمت أبناءها فى قريتها بالشمال عام ١٩٧٨، فى المراحل قبل الابتدائية».
وأضافت: «عندما وصلت المرحلة الابتدائية انتقلت مع أسرتى إلى الجنوب للالتحاق بمدرسة بور بنات الابتدائية، ثم التحقت بالمرحلة الثانوية إلى أن تخرجت وحصلت على الشهادة السودانية عام ١٩٨٩ وبعدها بدأت العمل فى وزارة الثقافة والإعلام كصحفية، وتدربت على يد الإعلامية الراحلة ليلى المغربى فى الخرطوم لمدة عام ونصف العام، ومنها انتقلت للتدريب العسكرى عام ١٩٩٠، والتحقت بكلية الشرطة حتى ٢٠٠٥».
وعن الحياة البرلمانية فى البلاد، قالت: «فى نهاية ٢٠١٣ اندلعت الحرب، وبعدها بشهر فى يناير بدأت مفاوضات أديس أبابا، وأُجريت مفاوضات لمدة ١٨ شهرًا حتى ٢٠١٥، ولزم لتنفيذ تلك الاتفاقية عام كامل، وكلها أمور عطلت إجراء الانتخابات البرلمانية». وأضافت: «حتى الآن يمر البرلمان بفترة انتقالية، إلى أن يعم الاستقرار داخل الدولة، ومن ثم تجرى الانتخابات»، مشددة فى الوقت ذاته على أن البرلمان يمارس دوره بصفة مستمرة، رغم تلك الحالة الانتقالية. ولفتت إلى وجود مشروعات وخطط كثيرة تريد المرأة فى جنوب السودان تنفيذها، لكن الظروف لا تساعدها، موضحة أن من بينها إقامة دار لليتامى والأرامل والمعاقين، وأخرى لتعليم الكبار والمرأة، معربة عن أملها فى أن تتلقى المرأة فى جنوب السودان دعمًا من مصر لتنفيذ تلك المشروعات.
واختتمت: «نأمل بتبادل الزيارات بين السيدات فى مصر وجنوب السودان خلال ٢٠١٨، وأدعو العالم لمساعدتنا، خاصة الحكومة المصرية وحكومات الدول العربية الأخرى».

مسئولة الصحة بأحد أقاليم «جونقلى»: نثمّن دور مصر الطبى.. والسيدة الأولى تزور القاهرة قريبًا
للمرأة فى جنوب السودان حضور قوى فى المناصب الحكومية، ومن أمثلة هذا الحضور تولى «نياليلى جون» مسئولية الشئون الصحية فى إقليم «فانجاك» التابع لولاية «جونقلى»، التى تضم ٦ محافظات، ٣ منها برية، والأخرى على البحر، ويبلغ تعدادها السكانى ٣٢٠ ألف نسمة. وقالت «نياليلى» إنها تشغل ذلك المنصب منذ عام و٣ أشهر، وشغلت قبله لمدة عام مسئولية البنية التحتية فى نفس الولاية. وعن مشروعاتها فى الولاية، قالت إنها أقامت ورش عمل لتأهيل الممرضات وتطوير قدراتهن فى تقديم الخدمات الطبية بطريقة صحيحة، خاصة فى المناطق الريفية، لافتة إلى أن كل متدربة تعلّم الأخرى، وذلك بمجهود ذاتى كامل، دون تكليف ميزانية الدولة أى شىء. وأضافت: «لا توجد مستشفيات فى الولاية، ويتم تقديم العلاج فى الشارع، ولعل ذلك هو السبب فى انتشار الأمراض بصورة كبيرة، مثل الجديرى والجفاف والملاريا والتيفويد»، وهو ما أرجعته إلى «عدم توافر الإمكانيات وعيش كثيرين على الإعانات التى تقدمها منظمات مثل (اليونيسيف)».
وثمنت مسئولة الصحة ما تبذله مصر فى تقديم المساعدة الطبية للجنوب، من خلال العيادات المصرية، مناشدة إياها بزيادة المساعدة، خاصة أنها «بلد الطب والأطباء»، إلى جانب إيفاد بعثات مصرية للتأهيل الطبى، وقوافل طبية لتقديم العلاج، خاصة المتخصصة فى الأمراض الوبائية.
ولفتت إلى عدم وجود مشرحة فى الولاية بسبب عدم توافر الكهرباء، وقالت: «لو كان لدينا سد، ما كان عانى المواطن من تلك الأزمة». وكشفت عن اعتزام السيدة الأولى لجنوب السودان زيارة مصر قريبًا، فى أولى زياراتها لدولة عربية إفريقية، مشيرة إلى وجود مشاورات لتنظيم تلك الزيارة فى فبراير أو مارس على أقصى تقدير، على أن تستغرق ٥ أيام ويرافقها فيها مجموعة من القيادات النسائية.
وقالت إنها تفضل تحديد موعد الزيارة فى مارس المقبل، لأنه الشهر الذى يتم الاحتفال فيه بـ«عيد الأم» و«عيد المرأة المصرية»، وهو ما يتيح التواصل مع السيدات المصريات والتعرف على عاداتهن وتقاليدهن.
وقالت: «تعتبر مصر هى الدولة الشقيقة لجنوب السودان، ولديها إمكانيات هائلة بالنسبة للمرأة، والسيدة الأولى دائمًا ما تبدى حبها الشديد للسيدات المصريات»، واصفة المرأة المصرية بصاحبة الشخصية القوية، التى تتمتع بإمكانيات عملية عالية، فضلًا عن أنها حفيدة حضارة عظيمة صاحبة تأثير كبير فى البشرية. واختتمت: «نأمل أن تتمكن السيدة الأولى فى هذه الزيارة من تأسيس علاقات ودية مع السيدات المصريات، وأن يكون هناك دور ثقافى واجتماعى لتأهيل المرأة الجنوبية، إلى جانب تعريف المصريات بالظروف القاسية، التى كانت تعانى منها المرأة الجنوبية، والسماح بتبادل النصائح والخبرات والمساعدات المصرية، خاصة فى التخلص من العادات الضارة المنتشرة فى الجنوب».

مهر الجميلة 350 بقرة.. العرس ليلة واحدة.. وإرضاع الطفل 5 سنوات شرط عدم اتهام الزوجة بـ«الخيانة»
فى أحد شوارع الجنوب جلست مع عدد من السيدات حول «نصبة شاى» بسيطة ــ تشبه «مقهى بلدى» صغير فى مصر ــ يجلس عليها الرجال والنساء، وتحدثت معهن عن أحوالهن وحياتهن وأمورهن الشخصية، ورأيهن فى أوضاع بلادهن، وفى الحرب التى أنهكت الدولة.
فى البداية، قالت «سبنة»، ربة منزل: «رغم الحروب والصراعات التى شهدتها جنوب السودان إلا أنها ستظل وطنى، وسأتحمل كل الصعوبات التى مررنا بها ــ وما زلنا ــ بعد الانفصال، ولا أخاف من الوجود هنا، ولا أفكر مطلقًا فى ترك البلد، خاصة أنه من الطبيعى وجود حرب ما دامت الدولة حديثة». وعن حياتها العائلية، قالت: «أعمل على مساعدة أولادى فى التعليم، لأن زوجى رجل كبير مريض بـ«السكرى»، ويعمل فى شمال السودان، وأتمنى من المنظمات الحقوقية للمرأة أن تساعد السيدات فى الجنوب لأنهن يستحقن ذلك». التقطت منها أطراف الحديث فتاة تدعى «سوار»، قالت: «الحياة هنا صعبة للغاية، لذا أبحث عن عمل خارج الجنوب لأننى مطلقة ولدىّ أطفال». وبسؤالها عن سبب انتشار الطلاق فى الجنوب، أجابت: «فى عامى ٢٠١٢ و٢٠١٣، كانت نسبة الطلاق مرتفعة، الأمر الذى دفع القضاء إلى تجريم تلك الظاهرة، وبفضل ذلك اختفت، إلا أننى تم تطليقى قبل إصدار ذلك القرار، وقد وزعت حلوى ابتهاجًا بتلك المناسبة، واحتفالًا بأننى أصبحت حرة». وأشارت إلى أنه رغم الوضع الصعب فى جنوب السودان، إلا أن المرأة الجنوبية تعمل على الاهتمام بنفسها، وتحارب الظروف الصعبة، بل تعمل أكثر من الرجل، وهى تستطيع تحمل المسئولية وأداء المهام الوظيفية رغم تعبها». وأثناء تناول الشاى معهن، قالت سيدة ثالثة: «الشاى هو المشروب الأساسى لدينا، نشربه أثناء الوجبات طوال اليوم، بالإضافة إلى الحلبة والجبنة وهو مشروب يماثل القهوة، ومن ناحية المأكولات يعتبر السمك هو الوجبة الأكثر تناولًا فى الجنوب». وعن تقاليد الزواج، أضافت: «البقر هو
مهر العروس، وهو من مراسم الزواج الرئيسية هنا، ومن تتمتع بقدر عالٍ من الجمال يتم إعطاؤها حوالى ٣٥٠ بقرة، والعرس يكون ليلة واحدة، وتستمر العزائم لمدة ٧ أيام متواصلة». وتابعت: «بعد الزواج من الممكن أن يهجر الرجل زوجته ٥ أعوام، لذا عليها أن ترضع طفلها لمدة ٥ أعوام أو أكثر إلى حين أن يأتى زوجها مرة أخرى مهما طالت المدة، حتى يتم فطمه، وبخلاف ذلك تعتبر الزوجة خائنة ومن حقه تطليقها». وبخلاف «قعدة الشاى» تلك، تشاهد فى الصباح الباكر، بشوارع «جوبا» عاصمة جنوب السودان، عشرات النساء ذاهبات لأعمالهن، وجوههن مهمومة بسبب البحث عن «لقمة العيش»، تجدهن يحملن أطفالهن على ظهورهن، ويحملن فى وجوههن الصمت والسكون فلا تسمع صوتًا لإحداهن. ورغم ذلك، إلا أنهن يتميزن بـ«الأناقة»، حتى وهن يعملن فى أماكن لا تليق بتلك الأناقة، ودائمًا ما تعطى ألوان ملابسهن المتداخلة مع بعضها البعض إحساسا بالحيوية.
وعلى المستوى السياسى، تمثل النساء ٥ من أصل ٢٩ منصبًا وزاريًا فى حكومة جنوب السودان، و١٠ من أصل ٢٨ نائبًا من نواب الوزراء يشغلها نساء أيضًا.
المرأة أيضًا فى جمهورية جنوب السودان تنشط فى قضايا توفير غذاء وملاجئ للجنود، ورعاية الأطفال، لكنها تعانى أيضًا من بعض التشويهات والعادات التى تنغرس فى الشخصيات منذ الطفولة، ومن بينها فرض خلع الأسنان منذ الصغر، الأمر الذى يتسبب فى عدم الثقة لدى السيدات والبنات عند الكبر.