رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مدار القلب

محمد جبريل
محمد جبريل

صحوت فى غرفتى. أمضيت الليل أناقش أصدقائى مشكلات تهمنا. تلفت بالدهشة، فهى ليست الغرفة نفسها، ولم تكن كراسى الأصدقاء فى مواضعها.
كتمت أمى إشفاقها:
- كنت تحلم.
لا أعرف إن كان ما شاهدته حلمًا، أم أنه حلم يقظة، أى تلك اللحظات التى تسبق الصحو من النوم؟ أم أنه مجرد تشوش يصنعه اختلاط المرئيات فى الذاكرة؟
أظل دقائق ممددًا على السرير، أسرح فيما يشبه الخيالات. أحاول تجميع أجزاء الحلم، أفصل بينه وبين وقائع الحياة اليومية، الحياة المعاشة بالفعل. أتذكر المشهد، والذى يليه، تتوالى المشاهد، أتبين الفجوات التى نسيتها.
نظرت - بتلقائية - ناحية بقعة الفراولة التى انتترت على الجلباب الأبيض. بدت البقعة الحمراء فى موضعها بالصورة التى نمت عليها. لم أتبين إن كان حلمًا أم حادثًا يشبه الحلم؟. لغرابته تصورته حلمًا.
حين قال لى سيد عبدربه إنه طلّق زوجته، سألت:
- ألم تقل هذا من قبل؟
قال إنه صحبها إلى المأذون فى الصباح، وطلّقها. أملى الانفعال قراره، ولم يكن فى باله.
كتمت الدهشة فى داخلى. كان قد روى لى عن الطريق المسدود الذى أوصله إلى قرار الطلاق، لا أذكر المكان ولا الزمان، تغلفت المرئيات بضبابية غيبت الملامح، وإن ترامى هدير أمواج البحر فى اصطدامها بصخور الشاطئ.
عيناى المفتوحتان، وحركة جسدى، والكلمات التى أقولها، والمشاهد التى أراها، والتلفت، والأذان فى أبوالعباس، وضوء النهار، والزحام، والعراك، والاندساس فى حلقة الذكر، وتلاغط الأصوات.. ذلك كله يضعنى فى قلب الحياة، الفعل والأخذ والرد والفصال. يفاجئنى الحلم فى لحظة لا أتوقعها، يتسلل وسط انشغالاتى اليومية. لا أتذكر الليلة التى جرى فيها، ولا أتذكر الحلم نفسه، لكنه ينبثق كالمفاجأة، أطيل التأمل، والتقليب، واستعادة الملامح والتصرفات، يرافقنى طيلة ساعات اليوم.
بدت سمكة القرش فى سكونها على الطاولة، مختلفة عما عرضه الفيلم الأمريكى. صغيرة بما يصعب التصور أنها تحدث الأذى. بدت صغيرة حتى عن مثيلتها فى مرة سابقة.
قال الرجل:
- هذه أول مرة نضع القرش داخل الحلقة.
حدست أن صورة القرش اختلفت فى ذاكرتى بما رأيته فى الفيلم، وما أراه الآن، وما بقى من صورة الحلم الذى ربما أتانى فى النوم.
قال لى عبدالله فودة فى قهوة فاروق:
- كنت تحلم.
فركت عينى لأتأكد إن كنت أحلم بالفعل. عرفت أنه يقصد تهويل ما قلت، وأن ما قلته لا صلة له بالظروف التى نعيشها.
انتترت من النوم على النداء باسمى. تلفت لأعرف مصدر الصوت، طالعنى الصمت السادر، وحط السكون على كل الأشياء من حولى.
هو صوت أبى، أميزه جيدًا، رغم رحيله منذ سنوات.
ومضت عينا أمى بإشفاق:
- قد يزور الموتى أحباءهم. اطلب لأبيك الرحمة.
تنهدت، وعدت إلى موضعى. ظللت صاحيًا لصدى النداء الذى ملأ أذنى، حتى غلبنى النوم.
أغمض عينى بعد الصحو، لا للنوم، وإنما للتذكر، لاستعادة أحلام ناقصة، ومتقطعة، وبها فجوات، وأحلام واضحة، متصلة، كأنى عشتها فى الواقع. تختلط الأحلام والكوابيس والمشاهد الحقيقية والمنامات والأخيلة والرؤى والتصورات، متشابكة، تتداخل، أعجز عن التمييز بينها، لا أدرى أيها جرى فى اليقظة، وأيها جرى فى المنام، يصعب أن تشكل مشهدًا أطمئن إليه: شوارع خافتة الضوء، بنايات، مساجد، ميادين، ساحات، ضوء فنار، حلقات ذكر، زراعات، مقاهى، شاطئ، مآذن، سيارات، جبال، رمال، غابات، أسواق، بلانصات صيد، إنشاد، ربما عجزت عن فصل ما بينها، أستقر على المعنى الذى صحوت عليه، أو أنه يظل فى الذهن، يعاودنى أثناء النهار.
أضيع وقتًا فى إقناع نفسى أن ما رأيته كان حلمًا، مشاهد متصلة صنعتها المخيلة، وليست وقائع حقيقية عشتها.
دعكت عينى - ذات صباح - وسألت:
- أين محسن الغمرى؟
قالت زوجتى:
- من أسبوع ودعك ليعود إلى طنطا.
أظهرت الحيرة:
- أمضينا الليل فى هذه الشرفة.
جدران الغرفة المصمتة، إلا من نافذة صغيرة تطل على الكورنيش، نبهتنى إلى أن جلستى إلى محسن الغمرى كانت فى الحلم. يختلط فهمى لما جرى، إن كان حلمًا، أم أنه حقيقة عشت تفصيلاتها.
بدا الشارع الضيق ملتفًا بالظلمة والصمت، شدتنى العصى الغليظة فى أيدى الرجال الثلاثة، فلم أتبين ملامحهم. اندفعوا من أول الطريق، أحطت وجهى بذراعى أتقى العصى المرفوعة. الضربة الأولى انبجس فيها الدم والألم والصراخ. زاد صراخى للدماء التى غطت الرؤية.
قلت وأنا أهز رأسى:
- كابوس فظيع!
أرجعت الخدش فى وجنتى إلى شفرة الحلاقة. فطنت - لرؤية ذقنى فى المرآة - أنى لم أكن حلقتها. كان اهتزاز الباص قد قارب الأجساد الواقفة فى الممر، اصطدمت الأيدى والأكتاف والصدور، ربما الخدش أحدثه - فى تلك اللحظة - إصبع يتقى الخطر، لكن إقامتى فى البيت ثلاثة أيام أخيرة، يقصر الزحام - الذى أذكره - على الحلم. فى الحلم اصطدم الظفر - لحظة اهتزاز الباص - بالوجنة. لغياب الألم، فلم أتحسس الموضع عند الصحو، لكن الحادثة الحلم أتذكرها، يصعب أن تكون قد جرت فى الحياة المعاشة.
حين سأل عبدالله فودة عن سبب وجود كدمة زرقاء فى جبهتى، فتشت عن إجابة لا تستدعى سؤالًا تاليًا. ابتسمت أعيننا وهو يودعنى آخر الليل، لا بد أنه رأى جبهتى الخالية من الكدمات. الغلالات أحاطت بالميدان الذى شحبت قسماته. أقف وسط المصلين، أؤدى الركعات والسجدات وراء الأمام الذى لا أراه. الكدمة ليست أثر حادث، لكنها تأثير الصلاة. هل تداخل الحلم بما حدث فعلًا.
أعجز عن تذكر الأحلام، أو أتذكر وقائع، وتنطمس وقائع أخرى. ألتقط ما جرى بالفعل، أنتزعه من زحام الرؤى والأحلام والكوابيس والمنامات والأخيلة التى تبددها اليقظة. صليت فى غير موعد، قرأت القرآن، تأملت عظات إمام أبوالعباس، اجتذبتنى كلمات المنشد فى الساحة الملاصقة لحلقة السمك، تطوحت مع الذاكرين على رصيف البوصيرى.
صعدت الطريق - ذات عصر - إلى مكتبات الموازينى. تأكدت من سهولة دس النوتة الصغيرة داخل جيب الجاكتة العلوى. أزمعت أن أسجل فيها كل أحداث يومى، كل ما أعيشه من استيقاظى فى الصباح إلى تهيئى للنوم، أستعيد ما علق من ضبابية الحلم، اليوم أربع وعشرون ساعة، هل ما حدث قد حدث بالفعل، أو أن الحلم تداخل فى حركة اليوم، فتصورت أنه ما حدث؟، تأخذنى المشغوليات، أحاول الاستعادة، أسجل ما يصل الأحداث، لا أغفل شيئًا، لا أفلت حتى التأملات الشخصية واستعادة الذكريات. لا يشغلنى التذكر فى ذاته، إنما متى جرت الواقعة، وكيف، وأين؟
إذا بدلت ثيابى، فإنى أتأكد من دس النوتة الصغيرة فى الجيب العلوى للجاكت أو البيجامة أو الجلباب، يختفى الجيب فأطمئن إلى موضع النوتة فى جيب البنطلون الخلفى. تدوين ما ألاحظه، ما ألامسه، ما يلفت انتباهى، أعيش حياة حقيقية، وحياة فى الحلم. أكتب كل شىء، ما أحياه - بالمعايشة المتيقظة - يمكن أن يساعدنى فى الغربلة، التفرقة بين ما جرى فى الواقع، وما جرى فى الحلم: الوقت، طبيعة المكان، الكلمات المتبادلة، حتى التفصيلات الهامشية، والتى لا تثير الانتباه.
امتلأت النوتة بالكثير من الأرقام والحكايات والمشاهدات والملاحظات والأسئلة والآراء والنكت، أسجل ما حدث، أهمل التعليقات، لا أكتب: فى رأيى، أظن أن، ألاحظ، هذا خطأ، هذا صواب..
أغمض العينين عند الاستيقاظ، لا أفتحهما، أستعيد ما جرى فى النوم، ما أتذكره من الأحلام والكوابيس. أشرد فى الأحلام التى لا تزول، والأحلام العابرة، وأحلام اليقظة، والمنامات والكوابيس. الكوابيس لا تشغلنى. لا أوفق - عند الصحو - فى لملمة ما رأيته، تختلط الأنياب والمخالب والأجسام الهائلة والزئير والصراخ. المشاهد متقطعة كما التشويش فى التليفزيون.
ربما الاستيقاظ مخرج من كابوس أتعبنى، أنتفض بجسدى كله، بآخر ما عندى، أحرك أطرافى حتى يبتعد الكابوس، أعود إلى ما لا يخيفنى.
بدا الانزعاج فى عينى زوجتى:
- كنت تصرخ؟!
- كابوس مخيف.
- زال والحمد لله.
ومضت خارج الغرفة:
- سأحضر لك كوب ماء.
استعدت الرؤى وأنا ألتقط أنفاسى: أجرى بكل قوتى، والسكين الهائلة فى يد الرجل الذى يطاردنى تلامس جسدى.
حسرت الجلباب. نظرت إلى موضع الملامسة، فى منتصف البطن تمامًا، بدت الثقوب الحمراء، الصغيرة، كأن ما عانيته أثناء النوم قد جرى بالفعل.
تبينت أن الحلم لا ينقطع بالاستيقاظ. أعود إلى النوم، فيعود الحلم إلى اتصاله، هو الحلم نفسه بتفصيلاته.
قلت لزوجتى:
- أيقظتنى من حلم جميل.
بدا الحلم فى انفصاله - بالصحو - واتصاله، كأنه بلا نهاية. أغمضت عينىّ، كأنى أعود إلى النوم. استغرقت فى النوم بالفعل، فى حلم أحببت ما جرى فيه.
ضقت بكثرة ما رأيت. بدأت فى استعادة ما أذكره من الأحلام، ألتقط ما يبدو غريبًا، وغير مألوف، وما يحتاج إلى تفسير.
تكتفى زوجتى بالقول:
- خير.
حين رأيتنى فى قبو مظلم كالقبر، قال لى عبدالله فودة إن الموت فى الحلم يعنى طول الحياة.
شغلنى - فى الفترة الأخيرة - ما كنت أصحو على مشاهدته. تختلط الرؤى، وتتشابك. تبدو واضحة، أو يلفها الشحوب، يتبدل الأشخاص والتصرفات. تظل الأماكن على حالها. كأنها القدس بالأقصى وحائط البراق وألق قبة الصخرة (ثبتت الصورة فى ذاكرتى منذ الطفولة) والتلال المحيطة والمآذن وأبراج الكنائس وبيت الشرق والبيوت القديمة (شاهدتها فى فيلم تسجيلى) والنوافذ الأشبه بالمشربيات والمصاطب والبواكى والبازارات والدكاكين ذات الأبواب الحديدية ومعاصر الزيتون وباعة الخضار والفاكهة والخبز والميرمية والشوارع الضيقة والأزقة والأسوار والقلاع والحصون والأبواب التاريخية والأقبية والأضواء المتسللة من القيساريات (لاحظت أن المشاهد نفسها تتكرر فى كل المدن العربية القديمة) وأعمدة النور ومفارق الطرق والميادين والساحات وباب الخليل وباب العمود ومنطقة الباب الجديد ومنطقة القصور الأموية والملابس الفلسطينية والكوفية (قرأت - آخر الليل - كتابًا عن القدس) والبساتين وأشجار الصنوبر والزيتون والبرتقال والنخيل والزعتر والنرجس والحنون (أسماء متكررة فى الإبداعات الفلسطينية) واختلاط روائح البخور والزعتر والبهارات والفلافل وتبغ النارجيلات، تقارب الحلم، تكرر - فى الليلة الواحدة - أكثر من مرة، كأنه صور متلاحقة، ما يختفى تحل - بدلًا منه - صور أخرى. تتعدد الصور، لكن الملامح والألوان والظلال تعمق المشهد الكلى، وتثبته. رؤى شفيفة، هامسة، كحلم، أو تقتحم نومى بالرؤى نفسها، وإن تتغير المواقف والتصرفات والكلمات، كأنها كابوس.
قصة قصيرة