رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كارت الكونجرس الأمريكي المحروق!


ليست صدفة، طبعًا، أن تتزامن الصفعة، صفعة القرن، التي وجهتها مصر إلى الولايات المتحدة بشأن «القدس»، مع مناقشة الكونجرس الأمريكي مشروع قانون يدعو الحكومة المصرية لإقرار المساواة بين مسلمي مصر وأقباطها، بزعم أن مواطنين مصريين يتعرضون لانتهاكات، وتتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية، بسبب ديانتهم. وليست صدفة أيضًا، أن يتم استخدام رعاع ومجرمين، ليقوموا في اليوم نفسه، بارتكاب جرائم كتلك التي شهدتها كفر الواصلين بـ«أطفيح»، سعيًا إلى استخدامها لتأكيد أكاذيب أو لإثبات الافتراءات.

إشادتنا بأداء الخارجية المصرية في استصدار رفض أممي للقرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لما توصف بـ«دولة إسرائيل»، لن تمنعنا من انتقاد ميوعتها في مواجهة مشروع القانون الذي تَكونُ واهمًا لو اعتقدت أنه يستهدف الدولة ولا يستهدف الكنيسة. أما أداء الداخلية في جريمة الاعتداء على «كنيسة» كفر الواصلين، فلا يوصف بأقل من كونه تواطؤًا مع المجرمين، حتى وإنْ تم إلقاء القبض على من قاموا بتحريضهم. خاصة أن ما قيل بأن الكنيسة غير مرخصة، يعني أن تتضاعف العقوبة وليس العكس. إذ إن الكنائس، المساجد، والمعابد، لها رب يحميها، إلى جانب الدولة طبعًا. أما بيوت المواطنين فيقع عبء حمايتها كله على مؤسسات الدولة، والداخلية تحديدًا.

مع ذلك، أي مع الميوعة وشبهة التواطؤ، فإننا على يقين بأن الكنيسة المصرية هي أول الرافضين لأي تدخل خارجي في شئوننا الداخلية. ولن أقول لك إنها لعبة استعمارية قديمة، مارستها فرنسا في الجزائر وبريطانيا في الهند ومصر. ولن أحكي لك قصة القمص سرجيوس الذي وقف في الجامع الأزهر سنة ١٩١٩ وقال للمصلين: إذا كانت حجة بريطانيا لاحتلال مصر هي حماية الأقباط، فليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحرارًا». لن أقول ولن أحكي عن تاريخ بعيد، وإنما سأقفر بك إلى التاريخ القريب، القريب جدًا، تحديدًا إلى السنوات التي كان فيها قداسة البابا شنودة، بابا للإسكندرية وبطريركًا للكرازة المرقسية.

الأنبا تواضروس، أطال الله عمره، يعيش بيننا، وقد تعتقد أنني أجامله لو تحدثت عن مواقفه الوطنية العديدة التي كان آخرها رفضه استقبال، نائب الرئيس الأمريكي. أما قداسة البابا شنودة، رحمه الله، فقد ترك لنا مواقف يحتاج حكيها إلى مجلدات. سنة ١٩٦٥، مثلًا، ألقى محاضرة في نقابة الصحفيين (كان النقيب هو الأستاذ حافظ محمود) هاجم فيها الإسرائيليين بشدة، وفنّد فيها مزاعم كونهم شعب الله المختار، وهي المحاضرة التي صدرت في كتاب تمت ترجمته إلى عدة لغات. وتكرر الهجوم نفسه عندما صار قداسته بطريركًا، في نوفمبر ١٩٧١، ودعته نقابة الصحفيين أيضًا لإلقاء محاضرة، وكان النقيب هو الأستاذ علي حمدي الجمال.

حلو الكلام؟!. الكلام الأحلى، هو أن الإدارة الأمريكية وجهت الدعوة لقداسة البابا لزيارتها. وذهب بالفعل في ١٤ أبريل ١٩٧٧ واستقبلته مظاهرة ترحيب كبيرة في نيويورك. ونشرت الصحف الأمريكية أخبار الزيارة في صفحاتها الأولى. ووقتها كانت هناك مشكلات وأزمات بين الكنيسة والرئيس السادات، بينها مثلًا «قانون الردة» الذي قيل، في يناير ١٩٧٧، إن الدولة تعتزم إقراره، كخطوة في طريقها إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. وعقدت الكنيسة مؤتمرًا وأصدرت بيانًا تطالب فيه بإلغاء المشروع واستبعاد فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية على غير المسلمين. وسبق تلك الأزمة خلاف حول تعداد المسيحيين عقب إعلان «السادات» أنهم مليونان و٣٣٠ ألفًا وردّت الكنيسة بأنهم ٧ ملايين، وسبب الخلاف هو أن السادات لم يعين في مجلس نواب ١٩٧٦ غير مسيحي واحد من عشرة رشحتهم الكنيسة.

كان البرنامج يتضمن الذهاب إلى واشنطن للقاء الرئيس الأمريكي (الجديد وقتها) جيمي كارتر. فطلب قداسته أن يرافقه إلى البيت الأبيض الدكتور أشرف غربال، سفير مصر لدى واشنطن. وفي اللقاء، كان السؤال الأول الذي وجهه كارتر، بعد الترحيب، عن الكتاب الذي هاجم فيه البابا الإسرائيليين، وفنّد فيه كون اليهود هم شعب الله المختار، وعن رأي الكنيسة المصرية في الصراع العربي الإسرائيلي، خاصة وأنه يعرف أن مصر بها سبعة ملايين مسيحي. وكان رد قداسة البابا «لو كان اليهود شعب الله المختار، نكون لا أنت ولا أنا من شعب الله»، أما عن المشاكل السياسية، فهي متروكة لرجال السياسة.

بدا واضحًا، وقتها، وتحديدًا من إشارة كارتر إلى عدد المسيحيين في مصر، أنها محاولة أمريكية لاستمالة البابا أو استدراجه إلى أن يتبنى موقفًا يتوافق مع النظرة الأمريكية للصراع العربي الإسرائيلي. غير أن البابا شنودة، كما أظهرت كل الأحداث المتعاقبة، كان أكثر التزامًا بمصريته وعروبته (وضع عشرات الخطوط تحت عروبته) مما ظن من حاولوا استمالته. وطبعًا، لا يخفى على أحد موقف البابا شنودة الواضح والقاطع برفض معاهدة السلام مع الإسرائيليين، وكذا رفضه السماح للمسيحيين بالذهاب إلى القدس. والأهم من ذلك كله هو أنه لم يحدث أن استقوى قداسته بالخارج (الولايات المتحدة أو غيرها) مع كل ما تعرض له والذي وصل حد تحديد إقامته في ٩ سبتمبر ١٩٨١ ومحاولة عزله!.

محاولة استمالة قداسة البابا شنودة لم تكن غير واحدة من الألاعيب التي حاول بها الأمريكيون استخدام الكنيسة للضغط على مصر، ولما فشلت، أو بتكرار الفشل، قررت أن تضغط أيضًا على الكنيسة والبابا، باستعمال غلمان محسوبين على أقباط مصر، ينتهزون أي فرصة أو جريمة (كجريمة «أطفيح» مثلًا)، لاتهام الكنيسة والبابا بالتفريط في حقوق الأقباط. وبين هؤلاء الغلمان أعضاء ما توصف بـ«منظمة التضامن القبطي»، Coptic Solidarity، الذين يُقال إنهم وراء مشروعات القوانين التي يناقشها «الكونجرس»!.