رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منهم العاصي والديب.. شعراء طلبوا الموت في قصائدهم

عبد الحميد الديب
عبد الحميد الديب

كثير من الشعراء الذين كانوا يطلبون الموت في أشعارهم، بعضهم كان ينظر للموت على أنه خلاص حقيقي، وبعضهم كان يراه رحيما من حياة قاسية، «الدستور» تستعرض ثلاثة نماذج لشعراء طلبو موتهم.

أحمد العَاصِي 1903 - 1930، من مواليد فارسكوربدمياط، التحق بمدرسة الطب بالقاهرة، فمرض بداء الصدر، فترك الطب وانصرف إلى الأدب، فتخرج في قسم الفلسفة بكلية الآداب سنة 1929، ووُظف بمكتبة الجامعة، توفي منتحرا، بعد أن صب على نفسه مادة كاوية.

ووجد في التحقيق كتابًا بخطه يقول فيه: «جبان من يكره الموت، جبان من لا يرحب بهذا الملاك الطاهر، انني أستعذب الموت الذي هو كالرائحة الزكية عندي.» وقد وجه إليه أحمد شوقي قصيدة، وضعها في مقدمة ديوانه.
صدر له ديوان من جزئين بعنوان «ديوان العاصي»، ورواية بعنوان غادة لبنان.

عبد الحميد الديب

توفى سنة 1943، وكان لقبه الشاعر البائس، وكان موهوبا، الا انه عاش حياة مأساوية، متسول وينام فى الطريق، وقضى معظم حياته بين المقاهي والأرصفة، ومع ان الجميع كانوا يطربون لاشعاره، لكنهم لم يمدوا إليه يد المساعدة.

وحين مات اقيم له تأبين حضره شعراء وادباء وخطباء، والقيت فيه كلمات نيابة عن وزراء الشئون الاجتماعية والاوقاف، وكلها كانت ترثي الفقيد.

«الديب» طلب الموت في أبيات من شعره قال فيها:
لقد كنت ارجو غرفة فاصبتها... بناء قديم العهد اضيق من حظي.
فأهداء أنفاسي تكاد تهدها... وأيسر لمسي في بنايتها يردي.
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها... فأرجله أمضى من الصارم الهندي.
تساكنني فيه الأفاعي جريئة... وفي جوها الأمراض تقتل او تعدي.
جوارك يارب لمثلي رحمة... فخذني إلى النيران أو جنة الخلد.


محمود أبو الوفا

فقد ساقه وهو صغير، ولكن أمه لم تذهب به للطبيب اكتفت بوضع العجائن على ساق الابن، وحدثت للولد «غرغرينا» مما استدعى بترها، وكان في سن العاشرة، شارك في مسابقة أقيمت لتكريم «شوقي» بقصيدة قال فيها:

وخالد الشعر سوف يبقى مرايا تجتلى في صفائها الأشياء
يا أمير البيان إن بياني فيك أعشت عبرته الأضواء

وتختار اللجنة التي كان من أعضائها شاعر النيل حافظ إبراهيم، وشاعر القطرين خليل مطران هذه القصيدة ليلقيها الشاعر في حفلة التكريم الرسمية، إلا أن أمير الشعراء يرفضه بسببب جلبابه البلدي وعكازه.

حفظ القرآن الكريم وتلقّى تعليمه الأولي في كُتّاب قريته، وكان صاحب كرامه وعزه نفس منذ سنواته الأولى، فلم يستطع أن يمشي في القرية بين أقرانه وقدمه مبتورة، فترك القرية دون أن يعلم أحدا وهو في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره ونزح إلى دمياط وبالذات منطقه رأس البر، وعمل في المقاهي فكان مثار عطف وشفقة أصحابها، كان يجلس على «بنك» لتحصيل الحساب من الزبائن.

وفي دمياط التحق بمعهدها الديني لكنه فُصل منه بعد ثلاث سنوات بسبب ما ينظمه من شعر له فلسفة خاصة.

ترك دمياط ونزح إلى القاهرة وهو في عمر أقل من عشرين عام، وشارك على مقهى في شارع عبد الخالق ثروت، ثم حوله إلى صالون أدبي وملتقى ثقافي.

كان قصد القاهرة لإتمام دراسته بالأزهر، لكنه انشغل بأحواله المعيشية ولم يتمها، كان يتكسب قوت يومه بالتنقل بين عدة مهن صغيرة منها: بائع فول مدمس، عامل في مقهى، بائع سجائر، وسيط أراض زراعية، كما عمل متعهدًا لإقامة الحفلات مدة من حياته، حتى استقرت أحواله بالانضمام إلى أسرة تحرير مجلة المقطتف،عام 1930، وأتيحت له فرصة نشر قصيدته «الإيمان»، وسرعان ما تتناقل خمس مجلات القصيدة، مما ُيعد نصرا صحفيا للمقتطف، دعا الدكتور فؤاد صروف – رئيس التحرير وقتئذ – إلى دعوة «أبو الوفا» للإنضمام لأسرة تحرير المجلة، حيث عُهد إليه بتحرير باب مكتبة المقتطف.

تقيم رابطة الأدب الجديد حفل تكريم له، يجده أمير الشعراء فرصة للتكفير عما أقترفه في حق أبوالوفا، يوم أن طرده من حفل تكريمه، ويرسل «شوقى» لجريدة الأهرام قصيدة في تكريم أبو الوفا، يشيد ببراعته الشعرية وأنه رغم سيره على عكاز تقيد خطواته، فإن صاحب خيال متحرر، يطوى البلاد وينتشر في جميع الأفاق، ويبدى إعجابه بجمال بيان الشاعر وهو بحالته هذه (مقيد الخُطا)، فكيف إذا أسترد ساقه وتمكن من التنقل بحرية أكثر؟ ويرى أن الأطباء لو يستسيغون لما في أشعاره من حلاوة، لصنعوا له بدلا من الساق المفقودة جناحا يطير به، ونشرت القصيدة كاملة في الأهرام في 21 فبراير عام 1932، وكان منها الأبيات التالية:

البلبل الغرد الذي هـز الربى وشجى الغصون...وحرك الأوراقا
خلف البهاء على القريض وكأسه تسقى بعذب نسيبه العشاقا
في القيد ممتنع الخطا وخياله يطوي البلاد وينشر الآفاقا
سباق غايات البيان جرى بلا ساق فكيف إذا إسترد الساقا
لو يطعم الطب الصناع بيانهأ ولو يسيغ – لما يقول – مذاقا
غالى بقيمته فلم يصنع له إلا الجناح محلقا خفاقا

وتبدأ صفحة جديدة من حياة «أبو الوفا»، فيسافر إلى باريس في يونيو 1932، ليعود منها في بدلة إفرنجية وجهاز صناعى بدلا من جلبابه البلدي وعكازه الخشبي، وفي نفس العام يُصدر مجموعته الشعرية، أنفاس محترقة، وتفتح له المجلات والصحف صدرها وتتسابق إلى نشر ما يقول، ويغني له الموسيقار محمد عبد الوهاب قصيدة، عندما يأتي المساء، وتطلب منه وزارة المعارف إستكمال ما كتبه أمير الشعراء من شعر للأطفال (وكان أمير الشعراء انتقل إلى رحمة الله)، فيستجيب أبو الوفا للطلب بمجموعة شعرية، قررت الوزارة تدريسها ما يقرب من ربع قرن، ضمن المجموعة التى عرفت بأسم المحفوظات المختارة.

عمل مذيعًا بالإذاعة المصرية،وأصبح عضوًا في بعض الأحزاب السياسية، وكذا في عدة جماعات أدبية منها: رابطة الأدب الجديد التي أنشأها أحمد زكي أبو شادي، وجماعة أبولو الشعرية التي أنشئت عام 1932، ثم منحه الرئيس الراحل محمد أنور السادات عام 1977، جائزة الجدارة في الفنون، وتلبي محافظة القاهرة أمله في الحصول على شقة بها تليفون في الإسكان المتوسط المتميز، فينقل من حي العمري (باب الخلق) إلى مدينة نصر عام 1978، بالإضافة إلى جائزة أكاديمية الفنون،وقيمتها ألف جنيه، فإن الشاعر البائس الذي كان فقد نور عينيه أيضا، أقام في الشقة أياما، ومات قبل أن يتسلم الألف جنيه حيث يلبي نداء ربه في 26 يناير 1979، فيدفن حيث تمنى في بلدته الديرس، في مقام جده العارف بالله سيدي أبو الوفا الشريف.