رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع الإسراء والمعراج


يا سادتى أنا ذاهب إلى رحلة فريدة، رحلة روحية تذهب إليها أرواحنا دون أن نبرح أماكننا، فهل تريدون أن تكونوا معى فى رحلتى؟، إذا أردتم فاستكملوا قراءة المقال حيث أصحبكم إلى معية الرسول صلى الله عليه وسلم فى الإسراء والمعراج، وقد يبدو الأمر غريبا على البعض أن تكون بداية الرحلة منطلقة من مشاعر الحزن الشفيفة، فمن منا لم يخالط قلبه الحزن ويضمخ فؤاده الألم؟، كلنا نحزن ولكننا حين نحزن نجهل أننا عندما نحزن نرتقى من حيث نظن أننا ننتهى، وأعلى الحزن منزلة ـ وللحزن منازل ـ.

هو حزن فراق الأحباب، وما يدريك ما فراق الأحباب؟، ذاك الفراق الذى لا يعرفه إلا من كابده، وحين عرف قلب الرسول، صلى الله عليه وسلم، ألم الفراق لمَّا ماتت زوجته وحبيبته أمنا «خديجة» رضى الله عنها، وعمه حبيبه وناصره «أبوطالب» اغترف قلبه من الحزن، وكان حزنه نورا فى قلبه وتصفية لنفسه وارتفاعا بمقامه، كان هذا الحزن تهيئة له حيث تنتظره رحلة نورانية فريدة لا مثيل لها فى السابق، ولن يكون لها مثيل فى اللاحق، رحلة سيخترق فيها بإذن ربه سننا كونية هى رحلة الإسراء والمعراج، ولعلى قرأت من البعض أن رحلة الإسراء والمعراج كانت مكافأة للرسول تبهج قلبه عوضا عن فراق أحبابه، وأظن الأمر كان على غير ذلك، فهى لم تكن مكافأة، ولكن الحزن كان هو «التهيئة» الربانية حتى تخلو نفس الرسول إلا من الله وحده، فالله وحده الذى إن فارقنا أحبابنا كان هو الحبيب الذى لا يفارقنا، فسبحانه لا يقطعنا، ويده لا تُرفع عنا.

تهيئة نفس الرسول إذن لاختراق بعض سنن الكون، وكانت بداية ذلك الاختراق عن طريق «البراق» إذ جىء له بهذا البراق، ونحن لا نعرف عن البراق إلا أن اسمه مستمد من البرق، ويقولون إن اسمه جاء من البريق وذلك من شدة ضوئه، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم ركب دابة من الضوء، حملته بقواعدها وليس بقواعدنا، بناموسها وليس بناموسنا، وذهبت به إلى القدس حيث صلى بالأنبياء، ثم عـُرج به إلى السماوات، ولا نعرف كيف عرج به لكننا نعرف العروج، فيقال عرَّج الرجل الثوب أى خططه خطوطا ملتوية، والعروج هو السير أو الصعود فى خطوط ملتوية متعرجة «تَعْرُج الْمَلَائِكَة وَالرُّوح إِلَيْهِ فِى يَوْم كَانَ مِقْدَاره خَمْسِينَ أَلْف سَنَة»، عروج الملائكة والروح هنا هو الصعود بالتواء، والزمن الذى استغرقته الملائكة كما ورد فى الآية كان خمسين ألف سنة وفقا لناموس العروج وزمنه، وهذا يدل على نسبية الأزمنة.

وقد شهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، كل مشاهد الإسراء والمعراج، واستغرق زمنا لا نعلم مقداره، وعاد إلى بيته قبل أن يبرد فراشه، وكانت الليلة شاتية باردة، فأنكرت قريش وقالت وفقا لعلمها: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها فى ليلة! فماذا لو علموا أنه عاد بمقدار أن يتجرع أحدهم شربة ماء!.. كانت سُنة الزمن الذى دلف إليه غير سُنة زمننا، وقانون المكان غير قانون مكاننا، لذلك ذهب وعرج ونزل وعاد دون أن يمر عليه الزمن الخاص بنا، ولكن مر به الزمن الخاص بالطبق الذى دخل إليه «لتركبن طبقا عن طبق»، فالله خلق السماوات والأرض طباقا وليس طبقات أو متطابقات، ألم يقل سبحانه «الذى خلق سبع سماوات طباقا» أى متداخلات بشكل كامل بحيث يستحيل أن تلحظ فارقا بين طبق وطبق مصداقا لقوله «ما ترى فى خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور».

ولكن هل رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم «اللهَ» فى المعراج؟.. اسمع منى يا سيدى العزيز، ومرر ما سأقوله على قلبك وعقلك، سُنة الله فى الحياة الدنيا أننا لا نراه بالنظر، إذ إنه خلقنا على هيئة وحالة لا تستطيع أن تستقبله بالنظر، فسبحانه سبحانه لا تدركه الأبصار، ولكن الأمر فى جنة الخلد يختلف عن الدنيا، فالله فى الجنة يهيئنا على حالة أخرى غير حالتنا التى كنا عليها فى الحياة الدنيا، فالله سبحانه يقول «وجوه يومئذ ناضرة*إلى ربها ناظرة» أى أن رؤية الله بالنظر والبصر ستكون لطائفة من أهل الجنة، ولكن فى الحياة الدنيا ضرب الله لنا مثلا، وكان هذا المثل هو سيدنا موسى عليه السلام، إذ عندما أراد النبى موسى أن يرى الله بالنظر فى الدنيا فقال «رب أرنى أنظر إليك» أى أنه طلب الرؤية بالنظر «أنظر إليك» ولكن الله أخبره أنه لن يراه بهذه الطريقة فقال سبحانه «قال لن ترانى»، لماذا لن يراه بالنظر؟ لأن بشرية موسى لم تُهيأ لذلك، ومكانية المكان لا تسمح بهذا، ثم أثبت الله له هذا فقال سبحانه «ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى»، أدر يا موسى نظرك وحدق فى هذا الجبل ـ وهو من جبال سيناء المباركة ـ وسيتجلى الله له، وهذا معناه أن الله تجلى، وقادر على أن يتجلى للمخلوق، لأن الجبل من خلق الله «فلما تجلى ربه للجبل» هذه هى لحظة التجلى «جعله دكا وخر موسى صعقا» لم يتحمل الجبل بقوته وثباته وشموخه وحديديته وصخريته هذا التجلى فتفتت، ومن هنا نعلم أن الله سبحانه تجلى للمخلوق، والمخلوق بمكانه وزمنه لم يهيأ للاستقبال فانهار.

ولكن هل هذا يعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير الله فى المعراج؟.

حين طلب موسى وهو بجوار الجبل على الأرض التى نحيا عليها ـ فى الحياة الدنيا ـ النظر بالبصر «أرنى أنظر إليك» طلبها من القادر، طلبها نظرا، والنظر لا يكون إلا بالعين التى حاسة البصر، فقال له القادر إن حواسك فى الدنيا لا تقدر على رؤية القادر، ودلل له على ذلك بالتجلى لخلق من خلقه وهو الجبل فحدث ما حدث، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره فى حياتنا الدنيا على الأرض التى نحيا عليها، فى مكة، أو فى القدس، ولم يره بسنن الحياة الدنيا ونواميسها، ولكنه رآه فى دنيا أخرى غير دنيانا، وفى نقطة اللازمان واللامكان عند سدرة المنتهى، وبحواس هيئت لهذه الرؤية فى هذا الموقف، أما صاحبه جبريل فلم يكن قد تهيأ لهذه الرؤية لذلك أحجم وخاف أن يحترق، ولكنه قال للرسول تقدم أنت فستخترق، إذ كان يعلم أن الله أعطاه القدرة على ذلك، فتقدم الرسول واخترق، فرأى الله كما قال ابن عباس بالفؤاد وليس بالبصر «ما كذب الفؤاد ما رأى* أفتمارونه على ما يرى* ولقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى».