رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العريش.. قبل أن يبتلعها الإرهاب


مقطع فيديو قصير لا يتجاوز دقائق، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية تم التقاطها فى أحد شوارع مدينة العريش، كلاهما ينقل صورة ثابتة ومتحركة لمجموعة من الإرهابيين الملثمين، يقفون بأسلحتهم المشرعة فى أحد شوارع المدينة، يمارسون ما يبدو أنه حاجزا أمنيا يقومون فيه بمراجعة أوراق سيارات وأشخاص يمرون على هذا الحاجز الذى يحمل توقيع «ولاية سيناء».

غزت هذه المنتجات الإعلامية، العديد من المواقع الإخبارية المصرية وغير المصرية على نطاق دفع العديد للتساؤل عن حقيقة هذا المشهد، والبعض ذهب للبحث عن تقييم درجة خطورة واقعة كهذه فى حال صحتها، ولإيضاح حقيقة الأمر باختصار لا يخل بالتفاصيل، هذا المشهد قد تم بالفعل لكنه اصطناعى بالكامل، والاصطناعية هنا يستلزمها أحد المربعات السكنية المعزولة والهادئة داخل مدينة العريش، ومراقبة من قبل أحد عناصر التنظيم على مدار أيام ترصد مرور قوات الأمن أو تواجدها وعبورها بالقرب من المكان المستهدف. ينتقل بعد هذه التجهيزات عناصر التنظيم التى ستنفذ «المشهد» الذى سيتم تصويره، إلى أقرب نقطة من الموقع الذى تم تحديده، ويتجهز بمعرفتهم سيارتان أو ثلاث ومجموعة من الأفراد المتعاونين مع التنظيم الإرهابى، هؤلاء سيلعبون أدوار السائقين والمواطنين الذين سيتم استيقافهم فى الشارع ومراجعة أوراقهم. فى النهاية يستغرق التنفيذ ما لا يزيد على عشر دقائق أو ربع ساعة على أقصى تقدير، وهذا مما يتم التدريب عليه وإجراء بروفات مسبقة لضبط التوقيتات وتوزيع مهام وأماكن المنفذين والمصورين.

صناعة تلك الصورة وبهذه الآلية، وتكثيف تداولها داخل المدينة بداية سيضمن لها الانتشار الكثيف اللاحق، فالمستهدف الأول أن يحتل هذا المشهد مساحة معتبرة من أحاديث أهالى مدينة العريش، ومنها تلقائيا سينتقل إلى المدن والقرى المجاورة. أهم ما يجب الالتفات إليه هنا أن هذا التداول المكثف يتناول واقعة حقيقية وليست إشاعة يسهل دحضها، وقد ينحصر التضخيم فيما شملته الواقعة من تفصيلات، مثل استمرار الحاجز الإرهابى لمدة زمنية أطول أو احتجاز أشخاص أو إيذائهم من قبل الإرهابيين، لكن فى النهاية يبقى الحدث، وستغذيه المقاطع المصورة التى ستجعله كالمنصة القادرة على إطلاق ما بعدها. ما سبق من تفصيلات اصطناعية للحدث، لا تخصم من أهميته ودرجة خطورته، ولا تسحب من أهداف القيام به من قبل التنظيم الإرهابى، خاصة مع وضعه فى سياق عام يعظم من فائدته ويضخم رصيده، السياق العام الذى يعمل عليه التنظيم الإرهابى فى سيناء الآن، هو الحرب على محور «التأثير على سكان مدينة العريش» عاصمة شمال سيناء وأكبر مدينة سكنية فى سيناء بالكامل.

على هذا المحور ووفق السياق العام المشار إليه، يجرى بالعريش استهداف ممنهج للخدمات الاعتيادية المقدمة للمواطنين من قبل الدولة، لذلك فضرب أبراج الكهرباء وإحراق مقر شركة النظافة ومواقع الأعمال الانشائية، حاضر ومتكرر، استهداف المسيحيين بعمليات الاغتيال الأخيرة ودفعهم للخروج من منازلهم خوفا، بعد بيانات التهديد التى أصدرها التنظيم بحقهم، هو رغبة فى صناعة مناخ عام متنوع الأشكال لكنه يبقى تحت عنوان واحد، فوضع هذا بجوار اقتحام العديد من مناسبات الزواج التى تتم فى أماكن عامة على وجه الخصوص، وإجبار المتواجدين على المغادرة تحت زعم «تحريم» الأغانى وطقوس الأفراح التقليدية. تخلل ذلك بعض عمليات المرور على المحال التجارية وفرض مواعيد للإغلاق، والكثير منهم تحدث عن رسائل تهديد وصلته تتعلق بضرورة تغيير النشاط، وفرض أشكال وألوان خاصة بالواجهات. مكونات هذا المشهد لها قدرة صاروخية على التمدد والانتشار، لمن طالته هذه الصور ولمن وصلته عن طريق السمع فى مدينة صغيرة فارغة بالأصل من الأحداث، فلا يوجد حدث ذو شأن يقع بالعريش إلا ويصل البيوت بعد ساعة واحدة على أقصى تقدير.

هذا المحور الخطير الذى يلعب عليه التنظيم الإرهابى، قليل التكلفة بالنسبة له لكنه ثمين الحصاد بأكثر مما نقدره، يكفى فقط حالة الإحباط العام التى تسود المدينة بعيدا عن أعين وآذان وسائل الإعلام، حيث تكتفى بنقل أخبار العمليات الإرهابية المباشرة ضد ضباط وجنود الجيش والشرطة، وربما تحاول إلقاء الضوء على بطولات حقيقية يتم بذلها هناك، وشهداء أبطال يبذلون أرواحهم فى سبيل مجابهة سرطان الإرهاب وتأمين المواطنين هناك، والتنظيم الإرهابى لا يتسم بالغباء على الإطلاق ولذلك اختار الأهداف الصغيرة والمؤثرة، التى تستطيع أن تجهض تلك النجاحات، لاسيما وهى تدور بالقرب أو على الأطراف من قلب العريش الذى يتم الآن اختطافه، وفى حال التراخى المقابل عن استيعاب دقة المعادلة وحاجتها لقدر عال من المرونة والابتكار فى مجابهتها، ستجرى عملية ابتلاع كامل للمدينة يخطط له بهدوء وروية تناسب الهدف.