رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مع سبق إصرار.. قصة لـ "سهى زكى"

سهى زكى
سهى زكى

- 1-
قبل تنفيذ ما اعتزمته بعد تفكير ثلاث سنوات ، وقفت أمام المرأة ، رسمت حاجبيها وكحلت عينيها ثم فردت شعرها الاسود الطويل الذى كاد يصل لآردافها ، وارتدت فستان عارى الكتفين والصدر يحدد تفاصيلها ، ثم جلست تنظر لملامحها وتبكى وهى تخبر المرآة عما تفعله فيها الايام ... كانت حرة تتنقل بين هذا المسرح وذاك تعيش ادوارا وتسخر من اخرى .
اصبحت الوحيدة فى مسرحيتها المؤلمة التى أجبرها أهلها على تمثيلها ...المسرح الذى لا يمل من العروض المتتالية خاصة العروض التراجيدية ، أو عروض الضحك الاسود ، قامت بأداء دورها على أكمل وجه وتصدرت صورها كل الجنازات الاعلامية ، فقد اصبح الجميع يتحدث بألم عن ذكرى ممثلة جميلة تعيش الان في دور لا يليق لها أبدا ... لم يصفق احد لها رغم ان المسرح يمتلئ عن أخره بالمتفرجين سواء من الاقارب أو الجيران أو الاصدقاء أو حتى السائرين بلا هدف في الشارع ... لم يعيروا لأدائها أي اهتمام، فما كان منها الا انها ثارت ثورة مؤذية لجمالها بعد أن تأملته لأخر مرة في المرأة وهى متأنقة جدا ، جردت شعرها بموس وارتدت ملابس الدور وخرجت لأمها مبتسمة تسألها عن أسعار الطماطم وغلاء السمك وكرهها للفراخ البيضاء التي ينعدم منها الخير ...!!
أصبحت تصدر اكتئاب وتستورد لامبالاة ، لكى تعيش لابد ان لا تبالى بأي شيء أيا كان فالامبالاة تشعرها بدغدغة في جسدها والمياه المثلجة تسرى فى العروق بدلا من الاكتئاب والدم المتجمد وذبحات القلب !!
يلكزها بعض الزائرين لعرضها بعشرة جنيهات فى الصميم كى تشترى سجائرها فهى لا تستطيع الاستمرار بأداء الدور دون دخان ...
الملعون حبيبها باح بسر العشرة جنيهات بلا فصال !!
قالت له عمته إنها جميلة ومؤدبة ولم يمسسها بشر فقال إنه لا يحبها لأنه لا يحب ولا يؤمن بحب العشرة وشيلنى واشيلك وقــدم السبت تلاقى الحد والقفة ام ودنين يشيلوها اثنين فهو يحلم بحب الروح ليكون مع شريكته واحدا صحيحا فبذلك تستقيم الحياة ولا يوجد شيء خطأ !!
اغتصبت جسده لكنها لم تستطع اغتصاب الحب !
المـاء ينساب على الجسد ليطهره من الأوجاع فهى غير كل الناس فالماء يفقدها الأمـل إذا تكاثر فوق جسدها فهى تكرهه الى أن تزيله بالمنشفة فكأنها تخلق من جديد الماء هو سر الحياة وهو أيضا سر تعاستها فمتى تحب الماء ؟!!
-2-
حبسها اخوها في البيت الصغير المبنى بالطوب الاحمر والذى لا يحميه الا ابواب حديد كبيرة ولا يوجد به سوى شباك واحد صغير نسى الغبي ان يضع له القضـبان
تكومت على نفسها في ركن عشة الفراخ الموجودة في البيت والتي تقوم امها كلما ذهبت هناك بإخراجهم الى الشارع لينفكوا شوية كما تقول لاحسن يموتوا ...
تجلس في كومتها تحسد الفراخ على الحرية الممنوحة لهم فى ساعات المغرب فهي حتى لا تستطيع ان تطل من الشباك الصغير الذين يغطونه بقطعة خشب على مقاسه تماما ...
تخرج أمها من غرفتها وتغلق الباب وهى تسب في العفاريت والشياطين الذين ركبوا ابنتها وجعلوها تهوى الفن وسنينه السودا ... يا بنتى ربنا يهديكى ويبعد عنك العفريت ابن الكلب ، بس لو اعرف عايز منك ايه وانا اريحه ، تنظر لها وهى ترتعد من الخوف لأنها ستهم بالخروج وغلق السجن عليها حالا في ركنها المرعب تراقب الفئران وهى تقرض اوراق كتب ملقاة كمهملات والصراصير التى تسعى بين بقايا اكلها واتتها فكرة عبقرية لتنقذ نفسها ... منذ توفى والدها بعد صدمته فيها لأنها تزوجت بغير رغبته ، احضر الاهل ملابسه ورموا بها فى هذا البيت فهو مخزن المهملات القديمة كلها !
احضرت كل ملابسه وقامت بلضمهم فى بعض وقامت بتكسير اللوح الخشبى الموجود على الشباك الصغير بقوة الغضب والخوف التى تعيشه ، ربطت الحبل المصنوع من ملابس ابوها ونزلت من الدور الثانى بهذا الحبل الذى انفكت ربطاته وهى على وشك الوصول للأرض ، واصيبت بكسر بسيط فى ساقيها ، لكنها لم تشعر بألم الكسر قدر سعادتها بالهروب من السجن ، سارت بالكسر تقع وتقوم وتقوم وتقع الى ان وصلت للمسرح الحقيقى التى حلمت بالعودة له كل الليالى السابقة ، أستقبلها بعض الزملاء القدامى ، الذين لم يقدروا قيمة ما عانته للعودة بينهم ، لم يعطوها الاهتمام اللازم !
ظلت تبحث فى الشوارع وبين الاصدقاء عن سرير ، لم تجد اى سرير ، لكن هناك من وقف يحدثها عن الفردوس الحقيقى التى يجب ان تذهب لها معه :
الفردوس المنشود على الأرض أولا .. لو ارتبطنا ببعض يبقى ارتباط فراديس .. فردوسك عامل إزاى .. تأخذ فردوسى وتدينى فردوسك !!
مللنا من الطرح والضرب فمتى الجمع !!
دار بها دائرة كبيرة فسقطت حبا ! كان صلبا كالصخر بابتسامتها لأن المرض وقتها لم يلن لأحد عرف الاهل مكانها ، أتفقوا معه وتحايلا عليها بعد أن وضعا لها كمية كبيرة من المنوم فى كوب الشاى التى تشربه بملعقتين ونصف من السكر ... لم تدرى الا وهى على سريرها الخشب البنى التى تعرفت على رائحته قبل ان تفتح عينيها !
-4-
لم تخطط من جديد للهرب، لكنها قررت هذه المرة ان تؤدى الدور الذين يدفعونها لأدائه ... فوقفت لهم فى وسط الصالة الفارغة من أي اثاث لأنهم تخلصوا منه فالعفاريت الملعونة قامت بحرقه اكثر من مرة ، فتخلصوا منه .... قامت بدور أمين شرطة فى ميدان التحرير واعطت لنفسها صلاحية تنظيم الشارع ...
اتقنت بالطبع الوقوف فى الميدان ، لكن لم تستمع لها أي سيارة من السيارات المارة، بل وصل الامر ان وقفت وسط الصالة تصرخ من اثر السيارة التى صدمتها!
قالوا ان الخروع يشفى الأمراض النفسية ... إذا أخذت الخروع مع بعض الماء ورفعتهما على النار ثم صببته فى كوب وشربته فهو يعالج نفسيا .. أخــــذت برطمان الخروع مع كوب وهذه هى الأشياء الوحيدة التى كانت معها فى مستشفى الأمراض العقلية !!
- 3 -
قاموا بأرسالها عندما فاجأتهم وهى على الباب ترتدى بنطلون وبلوزة وترغب فى الخروج ، فلم يفعلوا أى شيء سوى تكتيفها بالحبال داخل ملاءة بيضاء رائحتها تشبه رائحة بخور المتسولين امام المساجد ... ولم يكلف الاب أو الأخ نفسهم حق السؤال عليها الاطمئنان عليها وهى تتعارك مع المجانين لأنهم يأخذون سجائرها ويضربونها لأنها تجلس صامته تتفرج عليهم ، لم يتكلفوا معاناة سؤال الاطباء الذين قاموا بكهربتها كلما فتحت فمها وقالت مسـ ... ر...ح ، فقبل استكمال الكلمة يأتين الممرضات على عجل ويسحبونها الى غرفة التعذيب الكهربائى ليعالجونها من الهوس الغريب التى تعانى منه
قال الاطباء انها هكذا اصبحت سليمة !
لكن منذ أخذوها من المستشفى وهى لا تتكلم ولا تصرخ ولا تبكى ولا تذكر اى شيء مما تعلمته لكن الشيء الوحيد التى تذكرته هو أخر فنجان قرأته لها صديقتها ورحلت من حياتها شفافة كالبلور، فقد روت لها كل ما مرت به وهى الان فى انتظار النصف الثانى من الفنجان ، تتلهف لقوى خارقة تحرك حبال العرائس لمكانها المناسب ، فمنـذ تشابكت الخيوط لم تعــرف مكانها !