رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفكر صبحي منصور في حوار لـ"الدستور": أدعو إلى «دولة علمانية مؤمنة»

صبحي منصور
صبحي منصور

التفسير البشرى للقرآن إهانة للكتاب.. وكلام الله ليس «لوغاريتمات» تحتاج إلى توضيح وشرح إنسانى

الملحدون واللادينيون إخوة لنا فى «الإسلام السلوكى» والإرهابيون الذين يقتلون باسم الدين خصومنا

فكرنا سينتشر فى المستقبل بعد تحطيم الأصنام الفكرية والخرافات الدينية.. ونواجه حربًا من الوهابية

فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى، بدأ الباحث والمفكر أحمد صبحى منصور رحلته الفكرية ومشروعه البحثى الصادم، عقب إنهاء دراسته الجامعية بجامعة الأزهر، ليقدم أطروحته للماجستير عن التاريخ والحضارة الإسلامية، ثم رسالة الدكتوراه عن «أثر التصوف فى مصر فى العصر المملوكى» وفيها بيَّن التناقض بين الإسلام والتصوف، وبسببها بدأت معاركه مع شيوخ الأزهر؛ إذ أُجبِر على حذف أجزاء من الرسالة أثناء المناقشة.

بدأ منصور عمله بالتدريس فى جامعة الأزهر فى أواخر السبعينيات قبل فصله من الجامعة إثر صدامات مع مشايخه المنتمين لتيارات سلفية وإخوانية، وبتهمة إنكار السنة النبوية تعرض للسجن أواخر الثمانينيات لمدة شهرين، ليعمل فيما بعد فى مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية فى أوائل الثمانينيات إلى أن أغلقته السلطات.

على خلفية السجن والملاحقات ومصادرات كتبه المتكررة، اضطر منصور للهجرة إلى الولايات المتحدة بعد طلبه اللجوء السياسى، ليستقر هناك منذ العام 2001، وخلال تلك السنوات أسس «المركز العالمى للقرآن الكريم» وموقعه «أهل القرآن»، الذى يضم أبحاثه ومقالاته، فضلًا عن مقالات لآخرين منتمين إلى التيار ذاته.

«الدستور» حاورت على مدار حلقتين أحمد صبحى منصور حول أفكار رئيسية يقوم عليها فكر «التيار القرآنى»، خصوصًا تلك المتعلقة بالدولة والمجتمع، وسبل إصلاح الخطاب الدينى الراهن وآفاته التى أنتجت أفكارًا داعشية صارت تعشش فى عقول العرب، فضلًا عن راهن الثقافة العربية والحِمل الثقيل الذى صار المثقف ينوء بحمله فى ظل استبداد دينى وآخر سياسى.. وإلى الحوار:

يرى التيار القرآنى، الذى تتزعمه، أن الإسلام دين علمانى والدولة وفق الفهم القرآنى دولة إسلامية علمانية.. ألا ترى أن الإسلامية والعلمانية مصطلحان متناقضان فى الخطاب الفكرى الراهن؟ وما المقصود بتلك الدولة؟

- نحن فى جهادنا السلمى الإصلاحى ندعو إلى العلمانية المؤمنة. والفارق بينها وبين العلمانية الغربية ينبع من معنى الإسلام وعقيدة الإيمان باليوم الآخر والمبدأ الإسلامى فى الحرية المطلقة فى الدين. فالإيمان باليوم الآخر يعنى مسئولية كل فرد عن اختياره الدينى يوم القيامة أمام الخالق، حيث سيحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون، ومن يتدخل فى هذه الحرية الدينية إنما يزاحم الله فى ألوهيته، وبالتالى فالاختلاف الدينى والمذهبى أمر مقرر، ولا سلطة فيه لبشر على بشر، ولكن يجب حفظ حقوق «العباد» أو حقوق الإنسان، أى أن نعيش إخوة مُسالمين نحترم اختياراتنا الدينية، ونؤجل الحكم إلى يوم الدين. هذا أيضًا نابع من الإسلام بمعنى السلام فى التعامل مع الأفراد وبين البشر. أما الإسلام بمعنى التسليم لرب العزة، إيمانًا به وحده لا شريك له فهذا مرجعه لله يوم الدين.

أُسُس العلمانية المؤمنة شرحناها فى مقال لنا وهى: الإنسان هو سيد هذا العالم الدنيوى، لا سيد للإنسان إلا الله، ولا وساطة بينه وبين الناس، وبالتالى فلا وجود للكهنوت أو أى مؤسسة دينية، فضلًا عن المساواة بين كل البشر، باعتبارهم أبناء آدم بغض النظر عن أى اختلافات بينهم، والتوازن بين الفرد والمجتمع، وعدم استغلال الدين فى السياسة والمطامع الدنيوية.

علمانية الدولة الإسلامية تأتى من كونها دولة ديمقراطية توازن بين الحرية والعدل، وترعى حقوق الإنسان، وتكفل حقوق المواطنة، ومن ثم يكون الآخر فيها ليس المختلف فى الجنس أو العقيدة أو المذهب أو اللغة أو الفقير، بل هو المجرم الإرهابى الخارج عن القانون إلى أن يتوب ويعطى حق المجتمع. وهى دولة لا تبغض ذلك الآخر المجرم المعتدى ولا تعاديه، وإنما تسعى لإصلاحه وتهذيبه.

■ وعلى أى قواعد تُبنى القوانين التى تتحدث عنها، هل تكون الشريعة الإسلامية هى القانون أم هى قوانين وضعية؟

- الشريعة الإسلامية العلمانية تعطى التشريع البشرى المجال الأكبر، خاصة أن تشريعات القرآن الكريم محدودة لا تتجاوز مائتى آية، بكل التفصيلات والتكرار فى أوامرها وقواعدها ومقاصدها. وبشكل عام هناك مقاصد تشريعية ترنو إليها قواعد القرآن وتفصيلاته، وهى القيم العليا مثمثلة فى العدل والسلام والحرية وكرامة الإنسان، والرحمة، والتخفيف والتيسير، ورفع الحرج، وتفصيلات أخرى تحتكم إلى العرف أو المعروف فى التطبيق بوضع تفصيلات قانونية ومذكرات تفسيرية للتطبيق. ومن ثم فكل قانون يراعى القيم العليا فهو قانون إسلامى فى أى زمان ومكان. أيضًا، إلزام الفرد وعقابه مجاله محدود فى الشريعة الإسلامية العلمانية، وفقًا لقيمة الحرية المطلقة فى الدين، ومن ثم لا تكون للدولة سلطة فى علاقة المواطن بربه فيما يخص العبادات والعقائد، وتقتصر سلطتها فى الإلزام على الجانب العقابى الذى يحفظ حقوق الفرد فى الحياة وفى السمعة والعرض والمال والكرامة، وحتى تلك الحدود والعقوبات تسقط بالتوبة التى تعنى الاعتراف بالذنب والتعهد بالكف عنه، ورد الحقوق لأصحابها. المواطن الفرد هو الأساس فى الشريعة الإسلامية القرآنية، وإن كانت تلك الفردية مرتبطة بالتفاعل الإيجابى بالمجتمع طبقًا لفريضة الأمر بالمعروف والنهى على المنكر، المفروضة على الجميع التى لا تعنى فى الوقت ذاته الإكراه.

■ إذا كان القرآنيون يتبنون العلمانية كتصور أساسى لفهم الدين والدولة.. فلم يتجاهل العلمانيون أصحاب التيار القرآنى؟

- اسألوهم هم عن السبب. نحن نعتبر العلمانيين والملحدين واللادينيين إخوة لنا فى الإسلام السلوكى الظاهرى، حيث إن الإسلام الظاهرى السلوكى فى التعامل بين البشر هو السلام، بغض النظر عن اختلاف العقائد، الذى سيحكم فيه الله يوم القيامة، وطالما هم مسالمون لا يقومون بإكراهنا فى الدين، فهم إخوة لنا فى الإسلام السلوكى بمعنى السلام.

خصومنا فى هذه الدنيا هم الإرهابيون الذين يستخدمون الدين فى قتل الآخرين وإكراههم فى الدين. هؤلاء ليسوا إخوة لنا فى الإسلام السلوكى بمعنى السلام.

■ تدعو إلى ما أطلقت عليه «تدبر» القرآن كوسيلة وحيدة لفهمه، نافيًا وجود التفاسير والشروحات، ألا ترى أن ذلك يفتح الباب واسعًا لمزيد من الفروقات والخلافات الناجمة عن تعدد الرؤى دون أساس واضح؟ ألا ترى ضرورة وضع ضوابط لذلك التدبر الذى تدعو إليه؟

- للتدبر القرآنى منهجه وقد فصلناه فى بحث لنا بعنوان «كيف نفهم القرآن»، وأسس هذا التدبر موجودة فى داخل القرآن نفسه، وهى باختصار: الدخول على القرآن الكريم بدون رأى مسبق يُراد إثباته أو نفيه، أى البحث فى القرآن بتجرد وموضوعية ابتغاء معرفة الحقيقة، ثم تحديد المصطلح القرآنى للموضوع المراد بحثه من داخل القرآن نفسه، ثم متابعة الموضوع من خلال السياق المحلى «أى الآية وما قبلها وما بعدها» ومن خلال السياق العام للموضوع فى القرآن كله، بعد تجميع كل الآيات الخاصة بالموضوع فى سياقها المحلى والعام وما يقترب منها يتم بحث الموضوع كله متكاملًا. نحن نستبعد القواميس فى فهم المصطلحات القرآنية، لأن القواميس ترصد حركة «اللغة» فى عصرها، لذا تختلف من عصر إلى عصر. وقد نزل القرآن الكريم قبل تلك القواميس، وله مصطلحاته العربية الخاصة والمختلفة عن مصطلحات الأديان الأرضية للمحمديين من سُنّة وتشيع وتصوف، وحتى مصطلحاتهم الدينية مختلفة. نطبق منهج التدبر هذا فى كتاباتنا، وبهذا المنهج الذى بدأته لأول مرة فى تاريخ المسلمين تم اكتشاف آلاف الحقائق القرآنية المخالفة لما ساد فى تراث المسلمين وأديانهم الأرضية، وبهذا المنهج فى تدبر القرآن منشور لى فى موقع أهل القرآن عدة آلاف من المقالات والفتاوى والأبحاث والكتب كلها تحوى جديدا لم يكن معروفًا من قبل. وأهل القرآن فى موقعنا يكتبون بنفس المنهج، وبلا اختلاف بيننا سوى فى مستوى الخبرة البحثية، ولدينا كوكبة من الشباب القرآنى يتأهلون لحمل مشاعل التنوير، وفى كل الأحوال فنحن نؤكد أننا لا نقول رأى الدين بل نقول وجهات نظر لا نفرضها على أحد وهى تقبل النقاش والنقد وليست معصومة من الخطأ، فليس لدينا احتكار الحقيقة كما يزعم الآخرون. وربما أكون الوحيد الذى تعرض فتاواه للنقاش، وتأتيه الفتاوى فى شتى فروع المعرفة.

■ قلت إن القرآن لا يحتاج إلى تفسير وإنه صالح لكل زمان ومكان، ولكن كيف تنظر إلى الآيات المتعلقة بسياق تاريخى معين، كيف يمكن تطبيقها فى سياق مكانى وزمانى مختلف؟ وكيف يمكن الإقرار بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان دون الإقرار بانفتاح النص القرآنى على تأويلات متعددة؟

- قلنا وفق منهجنا فى تدبر القرآن إن تفسير القرآن هو بالقرآن، فأحسن تفسير للقرآن هو القرآن نفسه. ونحن نعتبر استعمال كلمة التفسير البشرى للقرآن هو إهانة للقرآن لأن الله لم ينزل كتابًا مبهمًا مليئًا باللوغاريتمات، بل أنزل كتابًا مبينًا وتبيانًا لكل ما يحتاج إلى تبيان، وجعله ميسّرا للذكر لكل من أراد الهداية. وفى الوقت نفسه فيه مستويات للتعمق العلمى مفتوحة لمن أراد أن يتعمق ويتدبر. ومن عجب أن من يقرأ فى التفاسير لا يفهم منها شيئا، ولو قرأ القرآن بدونها متعقلا ما يقرأ لوجد القرآن مبسّطا مفهوما ميسّرا للذكر. وقد أثبتنا هذا فى كتاب منشور على الموقع بعنوان «ملامح من الهجص فى تفسير القرطبى». فى موضوعات التشريع القرآنى قلنا إن هناك آيات تشريعية خاصة بزمانها ومكانها عن النبى محمد وزوجاته وعلاقاته بمن حوله كما فى سورة الأحزاب مثلًا، وآيات تشريعية يمكن تطبيقها إذا تكررت ظروفها مثل موضوعات القتال، وآيات يمكن تطبيقها فى كل زمان ومكان، كما أن القصص القرآنية منها ما هو عن الماضى «عن الأمم السابقة والأنبياء السابقين» وقصص قرآنى معاصر لوقت النزول الذى نستخلص منه تاريخ النبى محمد ومن حوله. ومن هنا أوضحنا أن منهجية القصص القرآنى تختلف عن منهجية علم التاريخ فى التأكيد على العبرة والعظة، خلافًا للمنهجية التاريخية، وبالتالى فالقصص القرآنى بما فيه من عظة وعبرة صالحة لكل زمان ومكان. وبالتالى أيضًا فإن ما يعرف بأسباب النزول تخلط بين التاريخ والقصص القرآنى ولا محل لها فى مجال العظة.

■ قدَّم العديد من مفكرى العصر الحديث العديد من التأويلات للقرآن الكريم التى تحتكم فى كثير منها للقواعد المنطقية ومراعاة ظروف العصر.. لم يتجاهل التيار القرآنى مثل هذه القراءات؟

لهم منهجهم ولنا منهجنا، ونحترم حقهم فى التفكير كما نحترم حق الآخرين فى حريتهم الدينية، ونحن نرحب بكل دعوة للاجتهاد الدينى مهما اختلفت عن منهجنا، ونرحب بأى حركة للإصلاح مهما اختلفت الخلفيات الفكرية، علمانية غربية أو لا دينية. نتمنى أن نجتمع جميعًا حول لواء السلام والعدل والحرية والإحسان أو التسامح الدينى.

■ تنطلق من رفض حجية السنة النبوية كمصدر ثانٍ للتشريع من منطلقات يتشارك بعضها مع دعاة تفنيد تلك الأحاديث وغربلتها من المدسوس والمنافى للقرآن والعقل.. لم لا تتبنى هذا التوجه، خاصة أنك تعترف بما سميته السنة العملية فى العبادات؟ وألا ترى أن اعترافك بوجود السنة العملية هو اعتراف بصحة جزئية للأحاديث فى التشريع؟

- حين كنت سُنيا معتدلًا أدعو لإصلاح السنّة كنت أدعو لعرض الأحاديث على القرآن، وخصوصا ما يعرف بصحيح البخارى. وبعد أن تعمقت فى تدبر القرآن آمنت أن تلك الأحاديث ليست جزءًا من دين الإسلام، وأنه لا إيمان إلا بحديث واحد هو حديث الله فى القرآن الكريم. السنة فى المصطلح القرآنى هى الشرع والمنهاج الإلهى فى التعامل مع المشركين، لذا تأتى فى القرآن الكريم منسوبة لله جل وعلا وليست للرسول، والنبى متبع لهذه السُنّة الإلهية وهو لنا أسوة حسنة فى التطبيق وليس سنّة حسنة. والعبادات تدخل ضمن سُنة الله، أى شرع الله جل وعلا، ونحن نطبقها بهذا المفهوم.

وهناك تحريفات أدخلها المحمديون فى العبادات عرضنا لها فى أبحاث منشورة لنا عن الصلاة والزكاة والحج والصيام، منها التشريعات المتعددة المتعلقة بالطهارة وتشريع صلوات لم يأت بها القرآن، وتقديس النبى فى الصلاة، فضلًا عن أساطير شفاعة النبى يوم الدين،، وغير ذلك من المسائل.

■ التشكيك فى المصادر التاريخية وراء الأحاديث ألا يستدعى بالضرورة البحث وراء سبل حفظ القرآن؟ لم كل هذا الشك والرفض لكل أسانيد الأحاديث فى مقابل ثقة مطلقة فى نقل القرآن وحفظه؟

- الإعجاز فى القرآن علميًا ورقميًا وتاريخيًا يؤكد استحالة أن يكون من تأليف رجل عربى اسمه محمد عاش فى الجزيرة العربية فى عصور الجهل والظلام. عندما كنت مدرسًا مساعدًا فى قسم التاريخ فى جامعة الأزهر وقدمت رسالتى للدكتوراه عن «أثر التصوف فى مصر فى العصر المملوكى» وأوضحت فيها التناقض بين الإسلام والتصوف من خلال تحليل كلام الصوفية وعرض مصادر التصوف على القرآن الكريم، تعرضت لاضطهاد جعلنى ألجأ إلى تحليل آيات القرآن الكريم بنفس المنهج العلمى البارد، منطلقًا من حقيقة مرعبة: أننى أكثر علمًا وخبرة علمية من «محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب» بحُكم التراكم المعرفى بينى وبينه.

وبهذا التراكم المعرفى حللت كتابات أعلام التصوف من أبى حامد الغزالى وغيره، وأوضحت تناقضها وتخلفها، وبالتالى لو كان القرآن من تأليف محمد بن عبدالله يمكننى إثبات ذلك. خلال فترة الاضطهاد، التى استمرت من عام 1977: 1980، قمت بمراجعة آيات القرآن وتحليلها باحثًا عن تناقض فيها، وخرجت فى النهاية ساجدًا لله بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون صناعة بشرية، وخرجت بحصيلة علمية قرآنية مازلت أعيش عليها حتى الآن، بل وبعلوم قرآنية غير مسبوقة، منشور بعضها الآن فى سجل كتبى فى الموقع وبعضها لم يتم نشره بسبب ضيق الوقت وقلة الإمكانات، حيث أعمل وحيدا بلا مُساعد منذ أربعين عامًا.