رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا أهل الجودة دماغنا وجعنا


إلى وزيرى التعليم والتعليم العالى أتحدث.. منذ فترة ليست بالقصيرة والصيحات تتعالى بين الأكاديميين فى المؤسسات العلمية والتعليمية والبحثية بضرورة الأخذ بنظم الجودة العالمية، إلا أن وتيرة تلك النداءات تصاعدت بعد مأساة خروج جامعاتنا المصرية والعربية خارج دوائر التنافس الدولية وحتى الإفريقية، وبالفعل تم تطبيق آليات العمل وتوفيق الأوضاع، إلا أن الحصاد والنتائج غير مؤثرة وغير مرضية بالشكل المأمول الذى يتماهى مع مستويات الجودة العالمية.

فى بداية العمل وإنشاء الهيئة المنوط بها إدارة ومراقبة ومتابعة عمليات الجودة، شهدت الساحة تسارعاً من أساتذة الجامعات للانخراط فى تنظيم ورش العمل والمؤتمرات والندوات وتشكيل لجان علمية لوضع أطر لتحديد مفهوم عام للجودة والحديث عن النظم العالمية، إلا أن ما كان يجب التوقف عنده أن التفاعل من جانب البعض فى أحيان كثيرة لم يكن من منطلق الغيرة العلمية والوطنية، بل كان للأسف بدافع تحقيق منافع شخصية باعتبار الجودة «سكة سبوبة» قد تفتح بابًا إضافيا للارتزاق، وذلك لأنه لم يكن فى الاعتبار طرح تلك الأسئلة:

1) هل مدارسنا وجامعاتنا بحالها الذى نلمسه جميعاً قابلة للتعديل والتطوير.. لقد أوجز الكاتب العبقرى أحمد رجب الأمر فى نصف كلمة بالغة الدلالة عندما طرح سؤالاً استنكارياً.. أين التعليم الذى نبحث له عن نظم جودة واعتماد؟!.

2) ثم أى نظم موحدة يمكن أن تطبق على جامعات تباينت أحوالها ومستوياتها؟!.. جامعات عتيقة كبرى يدرس بكلياتها عشرات الآلاف من الطلاب ولديها بنية أساسية وتجهيزات لا بأس بها، وأخرى حديثة أو إقليمية يكاد حالها يقترب من المدارس من حيث الشكل والتجهيزات.

3) هل الجامعات ذات القدرات المتواضعة يتوافر بكلياتها مراكز عملية جيدة لتوكيد الجودة من حيث تواجد أصحاب الخبرات فى التشخيص ووضع وصفة مناسبة لإعمال آليات التحول نحو الجودة والاتساق مع نظمها العالمية؟!.

4) ماذا عن حال المنظومة الإدارية فى جامعاتنا، هل هى قادرة على التحول من النظم البيروقراطية الورقية التقليدية إلى نظم قابلة للتغيير والإبداع وإعمال آليات العصر العلمية المتقدمة؟!.

5) هل تملك مؤسساتنا التعليمية الإرادة الحقيقية فى التطوير؟!.. إن ملف التطوير مفتوح وبشكل متفجر ودائم عبر العقود الأخيرة، وخير شاهد على ذلك توصيات العديد من المؤتمرات العلمية والقومية، لكن تفعيل آليات قراراتها فى مدارسنا وجامعاتنا لم يتم التعامل معها أو حتى تهيئتها كمؤسسات لقبول تحدى التطوير.

6) هل هناك إدراك لبعض الحالات فى جامعاتنا وكلياتنا التى يستحيل معها مجرد الشروع فى وضع منصات الانطلاق لتنفيذ برامج الجودة لافتقادها أبسط معطيات البناء والتحول، فما العمل مع تلك المؤسسات وأين يذهب طلابها؟!.

7) ماذا عن نوعية الطالب الذى تم قبوله وانتسابه للدراسة بالجامعة بموجب استمارة نجاح عبر امتحانات الثانوية العامة التى لم يتم تقييم جدواها ومصداقيتها العلمية والتربوية.

8) إذا كانت هناك منحة للصرف على الهيئة ولجانها ومشاريعها ودوراتها ومؤتمراتها، فماذا عن أمر التمويل اللازم للجامعات لكى يتم تأهيلها للتوافق مع نظم الجودة، بينما هى تعانى من أزمة تمويل هائلة لتطوير منشآتها ومشاريعها العلمية والتعليمية؟!.

9) هل لنا أن نتذكر نتائج مؤتمر اليونسكو للتعليم الذى أقيم فى باريس فى أكتوبر 1998 الذى نصت مقرراته على أن الجودة فى التعليم العالى مفهوم متعدد الأبعاد ينبغى أن يشمل جميع وظائف التعليم وأنشطته، مثل البرامج التعليمية والأكاديمية والبحوث والمنح الدراسية والمدرسية والطلاب والمبانى والمرافق والمعدات وتوفير الخدمات للمجتمع المحلى والبيئة الأكاديمية، ويعتبر التقييم الذاتى الداخلى والمراجعة الخارجية على يد خبراء مستقلين متخصصين ودوليين إن أمكن عاملين أساسيين لتعزيز الجودة، على أن يكون التقييم الداخلى والخارجى بشكل واضح للعيان.. هل تم وضع تلك المقررات فى حسابات التطبيق؟.

لقد كثر الحديث عن الجودة ونظمها بشكل نظرى لا يلامس الحال على أرض الواقع لدرجة تذكرنى بأبيات العبقرى بيرم التونسى بصدد نقده لحال الأغنية فى عصره « يا أهل المغنى.. دماغنا وجعنا.. دقيقة سكوت لله..».. فهل لى استبدال أهل المغنى بأهل الجودة.. وإن كان جميعنا يحلم بتحقيق الجودة، إلا أننا لا نريدها مجرد شعارات، أو إجراءات يتم إنجازها على الورق بآليات الفهلوة المعتادة عبر تظبيط الأوراق تحت شعار «الأهم من الشغل، تظبيط الشغل»، فإلى من يطالبون بالإسراع بتوفيق الأوضاع للحصول على الشهادات لتعليقها على مداخل دكاكين التعليم بدعوى العلم والامتلاك المطلق للمعرفة، أذكرهم بذلك البيت: فقل لمن يدعى فى العلم فلسفة.. حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء