رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» تنشر الفصل السابع من كتاب السناوي عن هيكل

هيكل
هيكل

عندما شرع فى كتابة خطاب تنحى الرئيس «جمال عبدالناصر» فى يونيو (١٩٦٧) لم يكن قد استقر تفكيره على وصف الهزيمة العسكرية بـ«النكسة».
سألته: «كيف طرأ التعبير إلى ذهنك فى تلك اللحظة القاسية؟».
«تسألنى بعد كل تلك السنوات والعقود كيف طرأ مصطلح النكسة، وأنا أقول لك أمينا أننى لا أعرف، أظنها مشاعر مواطن لم يكن يقدر على إغلاق أبواب الأمل فى المستقبل أمام شعبه».
«انفردت بنفسى لأكتب خطابه الأخير، وكنت أجلس فى ذلك الركن من الغرفة التى نجلس فيها الآن، وفى خاطرى أن أحلامنا الكبرى انهارت.. فكرت فى عبدالناصر وآلامه فوق طاقة بشر وكأنه كبر مرة واحدة عشر سنوات، كان صادقا فى مشاعره وتصرفاته، معتقدا أنه خذل أمة أولته ثقتها كما لم تفعل مع أحد آخر، قرر أن يتنحى، وطلب منى أن أكتب ما اتفقنا عليه من خطوط عريضة، وكنت الوحيد الذى التقاه فى ذلك اليوم الطويل.. لم يكن يناور، ففى اعتقاده أن النظم التى تعجز عن حماية حدودها تفقد شرعيتها.. وفكرت فى الشعب الذى سوف تصدمه نتائج المواجهات العسكرية فى سيناء، لم أكن مستعدا لكتابة كلمة الهزيمة، ومازلت معتقدا أننى كنت على صواب، كيف أكتب أنها هزيمة والجبهة السورية تقاتل والعراق يرسل قوات عسكرية إليك والجيش المصرى مازالت بعض قواته فى سيناء، كان اعتقادى أننا أمام عثرة مؤقتة، وإن كان عبدالناصر لا يستطيع أن يستكمل دوره فى القتال فإن أحدا آخر يستطيع، لكن شعبه خرج يومى (٩) و(١٠) يونيو إلى الشوارع يطالبه بالبقاء ويعرض المقاومة ومواصلة القتال».
«للتعبيرات قوة تأثيرها فى حركة الأحداث، عندما تقول هزيمة فإن كل شىء قد انتهى، وعليك أن تقر بما جرى وتستسلم له، بينما تعبير النكسة ساعدنا على لملمة جراحنا ودخلت قواتنا المسلحة بعد أيام أحد ملاحمها الكبرى فى معركة رأس العش».
«كل ما فكرت فيه أن النكسة وضع مؤقت والهزيمة استسلام نهائى».
نفس النظرة الاستراتيجية تبناها الفريق «عبدالمنعم رياض»، مستندا إلى خبرة شعوب أخرى تعرضت لهزائم فادحة، لكن روحها العامة لم تنكسر وأعلنت المقاومة مجددا.
كان صعود «رياض» لرئاسة أركان حرب القوات المسلحة المصرية بعد النكسة مباشرة تعبيرا عن ضرورات إسناد المناصب العسكرية للكفاءات القادرة على تحمل مسئولية القتال.
وقد وضع «عبدالناصر» نفس الثقة فى رجل آخر، الفريق أول «محمد فوزى» قائدا عاما برهان أن شخصيته الحازمة تعيد الانضباط المفقود إلى القوات المسلحة، وتساعد فى إعادة بنائها على أسس حديثة.
(١)
بتلك الأيام القاسية طلب «عبدالناصر» من اللواء «حسن البدرى» أن يتقدم بعرض ما لديه من تسجيلات للجنرالات الإسرائيليين بأصواتهم وصورهم على شاشة فى قاعة ببيت منشية البكرى.
فى جلسة التقييم وجد «رياض»، وقادة آخرون، و«محمد حسنين هيكل».
قال «رياض»: «سيادة الرئيس.. إننا فى هذا الذى رأيناه لهم.. رأينا مقتلهم».
سأله «عبدالناصر»: «أين ذلك؟».
أجاب: «الغرور!».
«أقول وقد تابعت التاريخ العسكرى بشكل أو آخر: هذا الذى سمعناه فيه درجة من الغرور أكبر بكثير مما تسمح به حقائق القوة.. سوف نستطيع أن نفاجئهم وأن نضربهم دون أن يتصوروا ودون أن يقدروا التقدير الكافى.. لقد لمحت الثغرة التى نستطيع منها أن نتقدم لكى ننال منهم.. وهى ثغرة الغرور، المهم بالنسبة لنا.. هو المفاجأة».
«أرجوك يا سيادة الرئيس ألا تقبل عودة سيناء بلا قتال حتى لو عرضوا عليك الانسحاب الكامل منها بلا قيد أو شرط».
«لا مستقبل لشعب يتعرض لاحتلال أراضيه ثم لا ينهض لحمل السلاح مستعدا لدفع فواتير الدم».
لم يكن بوسع «هيكل» حتى أيامه الأخيرة إخفاء إعجابه العميق بكل ما مثله «رياض».
كلما تذكر حوارا معه، أو ذكر اسمه فى سياق عام، كان ينظر أمامه كأنه يطل فى مرآة الزمن الذى ولى برجاله وأبطاله.
«رياض ضابط مدفعية ينظر إلى بعيد ويقصف ما لا يرى، وذلك يستدعى أن تكون حساباته للمسافات صحيحة ومعرفته بالمواقع مؤكدة».
«عرفت رياض لأول مرة عن طريق خاله حسن صبرى الخولى الممثل الشخصى لعبدالناصر، وكان إعجابه بزعيم يوليو ظاهرا فى كلماته وإيماءاته، يؤيد تجربته ومقتنع بها ويشاركه الأفكار ذاتها، وإن أردت أن تستخدم المصطلحات السياسية الحالية فإنه ناصرى».
«ثم رأيته مرة أخرى فى سكرتارية مؤتمر القمة الأول فى يناير ١٩٦٤، ولمحته مرات فى مكتب عبدالحكيم عامر قبل أن أعرفه عن قرب وأحاوره طويلا فى الاستراتيجية والأمن القومى ومستقبل الصراع العربى ــ الإسرائيلى، وتصوراته عما بعد حرب الاستنزاف وإعداد القوات المسلحة لخوض حرب تحرير أراضيها المحتلة فى سيناء».
«كان هو الرجل الذى توصل إلى أنه إن لم يكن بوسع قواتنا مجاراة إسرائيل فى قدرة سلاحها الجوى فإن بمقدورها إلغاء أثره وفارق تفوقه اعتمادا على الدفاع الجوى وشبكة صواريخ متقدمة، وهو الذى وضع الخطوط الرئيسية لخطة عبور قناة السويس وتحرير سيناء التى طورها الفريق سعد الدين الشاذلى فى حرب أكتوبر».
عندما استشهد على جبهة القتال الأمامية فى يوم (٩) مارس (١٩٦٩) خرجت فى جنازته بميدان التحرير مئات الألوف تردد هتافا واحدا لخص الموقف كله: «رياض مامتش والحرب لسه مانتهتش».
بذلك اليوم ذاب «عبدالناصر» فى الجموع الحزينة مزيحا حرسه جانبا.
(٢)
بعد عقود طويلة من عواصف النار فى حرب أكتوبر (١٩٧٣) فإن كتابة التاريخ بختم الوثائق المثبتة من ضرورات سلامة الذاكرة العامة وإنصاف أية أدوار لعبت.
هل كانت هناك خطة عسكرية لتحرير سيناء المحتلة قبل رحيل «عبدالناصر» فى (٢٨) سبتمبر (١٩٧٠)؟
وهل «جرانيت ١» و«جرانيت ٢» وهم سياسى روجه «فوزى» واعتمده «هيكل»، كما قال «الشاذلى» فى ديسمبر (٢٠٠٣) على محطة «الجزيرة» ببرنامج «شاهد على العصر»؟
حسب رواية «فوزى» فإنه كانت هناك خطة جاهزة، وقد نشر فصولا منها فى كتبه، وأن الرئيس «عبدالناصر» صدق عليها، وأن مصر كانت مستعدة لخوض الحرب فى ربيع (١٩٧١).
حسب «هيكل» فإن رواية «فوزى» صحيحة، وقد أكدها فى كتابه «أكتوبر ــ السلاح والسياسة».
فى مقال «استئذان فى الانصراف» (٢٠٠٣) أعاد عرض الخطوط الرئيسية لخطتى «جرانيت ١» و«جرانيت ٢»، فى نفس العام نفى «الشاذلى» تلك الرواية، وأكد أنه لا وجود لهما.
عندما سأله محاوره عن مصداقية رواية «هيكل» لحرب أكتوبر قال «الشاذلى» إنه «أكثر الكتاب إلماما بالاستراتيجية العسكرية، لكن لكل جواد كبوة.. وقد كانت كبوته اعتماد مصدر واحد وهو الفريق فوزى لتأكيد وجود خطتى جرانيت، وأنه لم يراجع أحدا آخر، كما لم يسأله هو فى أى وقت عما إذا كانت هناك خطة أم لا؟».
هكذا خرجت القضية إلى العلن سجالا بين رجال كبار.
تحدث «الشاذلى» عن اجتماع خاص جرت وقائعه عام (١٩٩٤) فى بيت «فوزى» بضاحية مصر الجديدة حول ما إذا كانت هناك خطة أم لا؟
ضم ذلك الاجتماع الخاص «فوزى» و«الشاذلى» و«البدرى».
حسب رواية «الشاذلى «فإنه سأل «فوزى»: «يا سيادة الفريق.. أين تركت الخطة عندما غادرت مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة لآخر مرة؟».
وأن «فوزى» أجابه: «أخذتها معى للبيت».
سأله «الشاذلى»: «لماذا يا سيادة الفريق؟».
أجابه: «لدواعى السرية».
هنا قال «الشاذلى» ــ حسب روايته: «لا داعى للمناظرة التى اقترحها البدرى، فالفريق فوزى يعترف بأنه أخذها معه للبيت، إذن لم تكن هناك خطة، بل كانت هناك أفكار».
كان «فوزى» و«البدرى» قد رحلا عندما أدلى «الشاذلى» بروايته الخطيرة.
القضية ليست «هيكل»، ولا «رياض»، ولا «فوزى»، ولا «الشاذلى»، ولا «البدرى»، فرغم أى خلافات أو تعقيدات إنسانية وسياسية، فإن تقدير كل منهم للآخر مؤكد وثابت.
«الشاذلى» نفسه وصف «فوزى» فى ذلك الحوار بـ«أستاذنا وعمنا».
قال «هيكل»: «لم أعتمد على الفريق فوزى كمصدر واحد لتأكيد وجود خطة عسكرية وقعها جمال عبدالناصر للقيام بعمليات واسعة فى سيناء».
«كنت موجودا هناك، سمعت ورأيت وقرأت جزءا من مقدمة الخطة فى بيت جمال عبدالناصر بمنشية البكرى فى وجود الفريق فوزى».
«حتى ولو لم أكن قد سمعت، أو رأيت وقرأت مقدمة الخطة، بالنسبة لى الفريق فوزى مصدق، فهو ــ بموقعه وقتها كقائد عام للقوات المسلحة، وبالتوقيت فى ظرف لا يحتمل الهزل فى حضور الرئيس عبدالناصر ــ شهادته تجب أى شهادة أخرى لم يتسن لها بحكم دورها فى ذلك الوقت الاطلاع على الخطة، أو المشاركة فيها».
«أخذت نفسى فى روايتى لأحداث أكتوبر بنظام فى التوثيق طلبته صارما وسعيت إليه مصمما».
«حوافظ التاريخ فى مصر لم تعتد بعد ضم واحتضان وقائعه ووثائقه لكى تؤمنه وتصونه».
«تلك قواعد تستحق الالتزام بها إذا ما أردنا أن نقرأ التاريخ ووقائعه بعيدا عن ضغوط اللحظة».
فى تلك الأيام تابع «هيكل» من بيته الريفى بـ«برقاش» على شاشة التلفزيون رواية الفريق «الشاذلى»، مستغربا أن تصدر عن رجل عسكرى محنك وكفء يعرف معنى الخطة.
«فكرة الخطة أهم ما فيها، قبل أن تنتقل الفكرة إلى مشروع والمشروع إلى صورة أخيرة مفصلة بالخرائط».
«باليقين فإن الفريق رياض هو صاحب الفكرة».
«عقب عودة جمال عبدالناصر من زيارة الاتحاد السوفييتى فى يوليو من عام ١٩٦٨ بدأت شحنات الأسلحة تنتظم».
«وقد كتب الرئيس خطوط توجيه استراتيجى لمعركة تقتضى عبور قناة السويس بالقوة والتمسك برءوس كبارى فى الشرق، وتؤدى إلى إلحاق خسائر بشرية كبيرة فى القوات الإسرائيلية، لأن نزيف الدم هو وحده الذى يزعج إسرائيل، معركة تطول أسابيع، ولا تنتهى فى مجرد أيام لأن إسرائيل لا تحتمل بقاء حالة التعبئة العامة طويلا، معركة تعطى بطول مدتها فرصة لتعبئة الرأى العام العربى ولفت انتباه الرأى العام العالمى».
«هذا التوجيه محفوظ فى ملفات رئاسة الجمهورية وتوجد نسخة واحدة منه فى وزارة الدفاع، وقد نشرته فى كتاب حرب أكتوبر».
«كانت أمام جمال عبدالناصر منذ نهاية ١٩٦٨ بداية خطوط لعمل واسع على الجبهة وضعها الفريق رياض، وشاركه فى وضعها الجنرال السوفييتى لاشنكو، الذى كان كبيرا للخبراء السوفييت الملحقين بالقوات المسلحة المصرية، وكانت عملية اختبار تلك الخطوط ومحاولات التدريب عليها قد بدأت فعلا عندما تحولت معارك المدافع، التى لم تتوقف على جبهة القتال، إلى عمليات عبور محدود إلى الضفة الأخرى من القناة ــ تدخل إلى المواقع الإسرائيلية، وتواجه تحصيناتها، وتشتبك مع قواته وتتعرض لدورياتها».
«تلقى عبدالناصر صدمة هائلة باستشهاد رياض، غير أن قيادة القوات المسلحة مضت بعزم الرجال فى تطوير خطة القتال، وكان أبرزهم الشاذلى، غير أنه من الظلم إهدار دور رياض، وهو من الطراز النادر للقادة العسكريين».
فى أغسطس (١٩٦٧) كتب «هيكل» مقالا أشار فيه إلى «الحرب المحدودة».
استوقفت الإشارة «رياض» الذى سأل «عبدالناصر» إذا ما كان قد أخبره بفكرة الخطة، التى لم تكن قد وضعت بعد.
«طلب الرئيس منى عدم التعرض لمثل هذه الأمور مرة أخرى وقال إن تفكيرك قريب من تفكير رياض ــ معركة دفاعية لها قدرة الهجوم تلحق الخسائر بإسرائيل وتخلق مرتكزات دفاعية تتكسر عليها القوات الإسرائيلية».
عندما كلفه الرئيس «السادات» بكتابة التوجيه الاستراتيجى لحرب أكتوبر تدفقت إلى ذاكرته ــ كما كتب بمقاله «الاستئذان فى الانصراف» ــ ثلاث خطط محددة، وصفها بالنص ــ والنص هنا ضرورى:
ــ أولاها: الخطة جرانيت (١) وهدفها عبور قناة السويس بقوة خمس فرق من المشاة والمدرعات تعمل تشكيلاتها تحت إمرة ثلاثة من قواد الجيوش يختص كل منهم بمنطقة على الخط الطويل الممتد من بورسعيد إلى السويس، والمهمة للثلاثة عبور قناة السويس بقوة السلاح والتمسك بثلاث رءوس كبارى عرضها عشرة كيلو مترات على الأقل كى تظل فى حماية حائط الصواريخ حتى تسيطر على رءوس الكبارى التى تبدأ منها الطرق الرئيسية الثلاثة: الجنوبى والأوسط والساحلى.
ــ والخطة الثانية: هى جرانيت (٢) وهدفها التقدم بعد إتمام السيطرة على رءوس الكبارى فى ظرف ثلاثة أيام إلى احتلال مضايق سيناء والسيطرة عليها (بالذات مضيق الجدى) والتمسك بها تحت أى هجمات مضادة لأن ذلك يستنزف القوات الإسرائيلية من ناحية، ويطردها إلى مناطق مكشوفة تماما ــ وفى الغالب يفرض عليها التراجع إلى خط «أم كتاف» على الحدود بين مصر وفلسطين.
ــ وأما الخطة الثالثة: وقد أطلق عليها الاسم الرمزى (الخطة ٢٠٠٠)، فهى مجهزة لاحتمال قيام القوات الإسرائيلية الخاصة باختراق قناة السويس فى اتجاه معاكس ــ من الشرق إلى الغرب بقصد النفاذ وراء الجيوش المصرية الثلاثة والقيام بعمليات «كوماندوز» لمهاجمة وتدمير، أو شل فاعلية قواعد الصواريخ من طراز سام (٢) وسام (٦) وحرمان قوات العبور من حمايتها.
ومن الغريب أن تفاصيل هذه الخطة تكاد تشير بالتحديد لمنطقة الدفرسوار وتعهد إلى احتياطى القيادة العامة، وهو فرقتان من المشاة الميكانيكية المتحركة تظلان غربى القناة ولا تشاركان فى العبور لتكون لهما حرية الحركة فى أى لحظة إزاء أى مفاجأة.
وقد تم وضع الخطط الثلاث قبل رحيل «جمال عبدالناصر»، وصدق بتوقيعه على أولاها، ثم وقع خلفه «أنور السادات» على جرانيت (٢) والخطة (٢٠٠٠) عندما قدمهما إليه الفريق «محمد فوزى» فى شهر مارس (١٩٧١).
من الإنصاف أن يقال إن هذه الخطط وبالذات جرانيت (١) و(٢) لحقت بهما زيادات وتعديلات فى السنوات ما بين (١٩٧٠ــ١٩٧٣)، وأن هذه الزيادات والتعديلات رفعت مستواها ودعمتها بخبرات مستجدة وقفزات كبيرة بتكنولوجيا السلاح، خصوصا فى استخدامات الصواريخ، والفضل عائد إلى الرجال الذين تولوا وزارة الدفاع فى تلك السنوات، ورؤساء أركان الحرب وقادة الأسلحة والتشكيلات، مما أضاف إلى فكرة الخطة وتفاصيلها، وغير أحيانا أسماءها وجعلها علامة بارزة فى التاريخ العسكرى».
هذه شهادة هيكل بحرفيتها.
بالإضافة إلى ذلك كله لا يعقل ــ بالبداهة ــ أن يأخذ «فوزى» الخطة العسكرية معه إلى بيته، فوقائع التاريخ تشير إلى أنه غادر لآخر مرة مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة فى مايو (١٩٧١) بعد اجتماع عاصف عقده مع بعض القادة، أعلن فيه استقالته لاعتراضه على سياسات «السادات».
قال «هيكل»: «إن فوزى بحكم ما هو معروف عنه من انضباط شديد كان يهتم بالتفاصيل ويؤكد عليها، ومن المستحيل أن يأخذ معه الخطة إلى بيته، فجرانيت ١ وجرانيت ٢ نحو ألف صفحة، مصحوبة بخرائط تفصيلية، وتقديرات لكل الاحتمالات ودور كل جيش، ولها مقدمة نحو ٣٠ صفحة تشمل فكرتها الرئيسية، والخطة ــ أى خطة ــ لا يضعها قائد واحد، وقد شارك فى صياغة الخطتين أكثر من ٢٥ ضابط أركان حرب، كل فى تخصصه العسكرى ووفق خبرة سلاحه، والخطة تشمل واجبات كل الأسلحة والجيوش وخبرات متعددة».
وقد دخل على خط المساجلة حول خطتى الحرب السيد «سامى شرف»: «أدعو ــ مثل الفريق الشاذلى تماما ــ إلى كشف الوثائق وفتح الملفات، كنت موجودا فى مكتب الرئيس وزيرا لشئون الرئاسة، وأتاحت الظروف لى أن أتابع من أعلى هرم السلطة الحقائق كما جرت، وهو ما لم يكن متاحا للفريق الشاذلى».
«باليقين هناك خطة عسكرية، وصدق عليها جمال عبدالناصر فى سبتمبر ١٩٧٠، كان الرئيس عائدا بالقطار من مرسى مطروح، وكان يرافقه فى الرحلة الفريق محمد فوزى، الذى سافر إليه خصيصا لعرض الخطة فى صورتها النهائية، وكان يرافقه أيضا فى هذه الرحلة السيد حسين الشافعى، وكان التقدير العسكرى أننا جاهزون لخوض الحرب فى ربيع ١٩٧١، غير أن الرئيس رحل بعد أيام، وبدأت مرحلة جديدة بتولى السادات رئاسة الجمهورية».
«لمرة ثانية عرض الفريق فوزى على الرئيس الجديد السادات خطتى جرانيت فى قصر عابدين يوم ١٠ مارس ١٩٧١ والجلسة مسجلة فى أرشيف الرئاسة».
«عندما بدأ الفريق فوزى يعرض الخطة بتفاصيلها وخرائطها قال الرئيس السادات: أنا كل ما أريده عشرة سنتيمترات من سيناء».
«كنت فى موسكو وفور عودتى تسلمت ملفات الخطة ووثائقها وخرائطها، فأودعتها الخزينة الخاصة بمكتبى لحين أن يطلبها الرئيس للتوقيع عليها وإرسالها للقيادة العامة للقوات المسلحة مرة أخرى».
الوثائق ــ كما يصفها «شرف» ــ عبارة عن نحو (١٠٠٠) صفحة فى نحو سبعة ملفات فرعية بها خرائط وتفاصيل الخطة، ضمها ملف أسود لميع «لوس ليفر». «ظلت الوثائق مودعة فى الخزينة حتى اعتقالى فى أحداث مايو ١٩٧٠، ولا علم لى بعد ذلك: أين ذهبت؟، أو ماذا فعل بها السادات؟».
ما الذى دار ــ إذن ــ فى بيت «فوزى» مع «الشاذلى» و«البدرى»؟
حسب رواية «شرف» منسوبة إلى «فوزى» الذى يرتبط معه بصداقة ومصاهرة.
«لم يقترب الاجتماع بين القادة العسكريين السابقين الثلاثة من قريب، أو بعيد، من خطتى جرانيت ١ و٢، ولا اللواء البدرى كتب محضرا عنه».
شهادة «الشاذلى»، التى استدعت سجالا بالنظر إلى قيمته، أعادت لفت الانتباه إلى ما نشرته صحيفة «الأهرام» فى (٦) مايو (١٩٩٦) موقعا من خمسة قادة عسكريين كبار تحت عنوان: «تصويبات لمغالطات حول حربى الاستنزاف وأكتوبر».
فى النص المنشور ما يثبت ويؤكد وجود خطة عسكرية مصرية لتحرير سيناء فى عهد «عبدالناصر».
الموقعون هم: الفريق أول «محمد فوزى»، الفريق «عبدالمنعم واصل»، اللواء «عبدالمنعم خليل»، اللواء طيار دكتور «جبر على جبر»، واللواء «حسن البدرى».
فى مقدمة المقال قال القادة العسكريون الخمسة:
«إنه بمجرد انتهاء مرحلة الدفاع النشيطة فى فبراير ١٩٦٩ انكبت هيئة عمليات القوات المسلحة على وضع الخطط الهجومية الكفيلة بتحقيق الأهداف المرحلية المنشودة مع مداومة تطويرها طبقا لمختلف العوامل المؤثرة»، وبذات الشهادة فإن عمليات حرب الاستنزاف جرت بهدف تجهيز القوات المسلحة لتنفيذ الواجبات المنصوص عليها فى الخطة.
من بين القيادات العسكرية الخمسة اثنان شاركا فى الاجتماع الخاص مع «الشاذلى»، هما «فوزى» و«البدرى».
عندما نشر هذا الكلام فى ديسمبر (٢٠٠٣)، و«الشاذلى» على قيد الحياة، لم يعلق ولم يرد لأسباب ارتآها. باليقين فهو أحد القادة العظام فى التاريخ العسكرى المصرى، ودوره جوهرى فى عبور المقاتلين على جسور قناة السويس تحت وابل من النيران.
غير أن الحقيقة التاريخية أكبر من أن تلخص فى رجل، أيا كان قدره ودوره.
وقد كان هو نفسه أكثر من تعرض للتنكيل وحذفت صورته من بانوراما أكتوبر.
(٣)
عند ذروة حرب الاستنزاف عام (١٩٦٨) زار الرئيس «عبدالناصر» بصورة مفاجئة الكلية الجوية، التى كان يقودها العقيد طيار «حسنى مبارك».
كان بصحبة الرئيس ثلاث شخصيات كبيرة من قادة القوات المسلحة.. «فوزى» و«رياض»، والفريق «محمد صادق»، الذى خلف الثانى رئيسا للأركان بعد استشهاده، ثم خلف الأول إثر خلافه مع الرئيس «السادات».
شاءت الأقدار أن يختفى القادة الأربعة، الذين ضمتهم صورة واحدة مع العقيد «حسنى مبارك» فى ذلك اليوم.. واحد إثر آخر خلال فترة وجيزة من عمر الزمن.
غاب «رياض» فى (مارس ١٩٦٩) ثم غاب «عبدالناصر» فى (سبتمبر ١٩٧٠).
ثم وارت الأحداث دور «فوزى» بعد إطاحته عام (١٩٧١).
وأبعد «صادق» بعد عام واحد (١٩٧٢).
بعد سنوات معدودة من تلك الصورة صعد «مبارك» إلى مقعد رئيس الجمهورية.
كانت تلك ــ بحسب «هيكل» ــ نبوءة لخصتها صورة أودعت أرشيف رئاسة الجمهورية.
الصورة تحمل الرقم (١١) فى سجلات صور رئاسة الجمهورية ضمن مجموعة من الصور التقطت بذلك اليوم.
«الصورة تبدى فيها المستقبل المصرى كأن عرافة دلفى فى الأسطورة الإغريقية نظرت فى الغيب وقرأت ما سوف تأتى به الأيام».
حصلت على الصورة الأصلية ونشرتها فى حينه قبل أن أعيدها إليه، وكان ذلك من حسن الحظ، فقد حرق الأصل ضمن ما حرق فى «برقاش».
«الصور أحيانا لها قوة النبوءة».
غير أن نبوءات «عرافة دلفى» لم تشر إلى ما قد تنزل به الأيام من حوادث دفعت بـ«مبارك» خلف جدران السجون ولا توقعت ما بعده.