رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تدمير أضخم مكتبة لتراث الغناء المصرى برعاية وزارة الثقافة

حلمي النمنم وزير
حلمي النمنم وزير الثقافة

نبدأ بتهنئة واجبة لوزير الثقافة حلمى النمنم على تجديد ثقة القيادة السياسية فيه واستمراره فى قيادة دفة سفينة الثقافة المصرية فى تلك الظروف الاستثنائية، ولكنها تهنئة لا تمنعنا من أن نسأل ونسائل السيد وزير الثقافة: هل لديك علم بتلك «الكارثة» التى تهدد تراث مصر وذاكرتها الموسيقية؟!.. هل تعرف أن لدى إحدى هيئات الوزارة 12 ألف أسطوانة و40 ألف شريط كاسيت تجمع كل ما أنتجته مصر موسيقيًا وغنائيًا خلال القرنين الـ19 والـ20، وأن هذا «الكنز» مهدد بالتلف والضياع!

وقبل أن ندخل فى تفاصيل تلك «الكارثة» نذكر تلك الواقعة، وبطلها هو المايسترو محسن فاروق، أحد حراس موسيقانا المصرية الأشداء، ومؤسس بيت الغناء العربى والمطرب الفنان الذى أفنى من حياته 38 سنة فى خدمة الموسيقى والتراث الغنائى المصرى.

حكى لى محسن فاروق أنه كان فى فرنسا قبل سنوات وأهداه صديقه الفنان العالمى أنريكو ماسيوس أسطوانة فخمة صادرة عن شركة «نادى الأسطوانة العربية بباريس»، الأسطوانة كان ثمنها 100 يورو، وكانت تحمل نخبة من أجمل أغانى التراث المصرى.. بعدها فوجئ محسن فاروق بصديق له يرسل له «بوستر» دعائيًا يعلن عن بيع حفلات أول مؤتمر للموسيقى العربية أقيم فى معهد فؤاد الأول للموسيقى «معهد الموسيقى العربية فيما بعد» عام 1932، يسأله عما يعرفه عن الجهة الأجنبية التى تبيع حفلات هذا المؤتمر، وكيف وصلت إليها، وهل من حقها أن تطلب فيها 200 يورو؟!

بدأ محسن فاروق فى إجراء تحريات مكثفة حتى توصل إلى حل اللغز، فقد تبين له أن جهات أجنبية نجحت فى الحصول على أكبر ثلاث مكتبات موسيقية فى مصر: مكتبة المؤرخ الموسيقى عبدالعزيز عنانى، مكتبة المؤرخ المعروف محمود كامل، مكتبة أحد ضباط البحرية المصرية القدامى بالإسكندرية وكان من عشاق الموسيقى ويقتنى آلاف الأسطوانات النادرة.. خرجت تلك الثروة من مصر، ولم تهتم الهيئات الثقافية بالحفاظ عليها بعد رحيل أصحابها، فجاء من يدفع إلى الورثة ويحصل على هذا الكنز، وينقله إلى باريس، وبعد عمليات الترميم والنقل والمونتاج بدأوا فى بيعه لنا.. والأسطوانة بـ100 يورو أى ما يزيد على ألف جنيه مصرى، ليستعيدوا ما دفعوه أضعافا مضاعفة، والأهم أنهم وحدهم الذين يملكون هذا الكنز الآن!

أما من «هم» هؤلاء الذين سعوا وخططوا ونجحوا فى اقتناص هذا الكنز وإخراجه من مصر؟! فنستأذنك فى تأجيل الإجابة قليلًا.

فيبدو أن لجنة التراث الموسيقى بإدارة العلاقات الثقافية الخارجية فى وزارة الثقافة تنبهت إلى المخاطر التى تحيق وتحيط بالتراث الغنائى المصرى بعد كارثة تسريب المكتبات الثلاث، فاستعانت بمحسن فاروق للبدء فى مشروع طموح لجمع وحفظ وإعادة إنتاج تراثنا الموسيقى، وبذل الرجل جهدا فوق الطاقة وبدافع وطنى فى المقام الأول، ونجح فى عامين فى إصدار 20 أسطوانة تجمع كنوزًا من تراث الموسيقى المصرية الغنائى، وهو نفس عدد الأسطوانات التى كانت اللجنة قد تمكنت من إصداره خلال عشرين عاماً..!

وبعد عامين من هذا الإنجاز قالوا للرجل: كفاية كده.. سنتوقف عند هذا الحد لأن الميزانية لا تسمح!.. فى حين أن نفس الميزانية تسمح فى نشاطات هزيلة وفى الصرف على سفريات فرق درجة ثالثة بلا مردود ولا أثر.. لكن هذه قضية أخرى ربما نعود إليها بتفاصيلها ونكشف فسادها فى وقت لاحق!.

كاد الإحباط يسيطر على محسن فاروق حتى أنقذه استدعاء من رئيس هيئة دار الكتب والوثائق القومية يومها د. شريف شاهين «خلفه الآن د. محمود الضبع»، يعرض عليه المشاركة فى مشروع لأرشفة وترميم وإنقاذ ما تمتلكه دار الوثائق من ثروة موسيقية وغنائية تراكمت لديها بمرور السنين، حيث كانت اللوائح القديمة تقتضى وضع نسخ مما يصدر فى مصر من أسطوانات وأشرطة الكاسيت.

وبعد المعاينات أدرك محسن فاروق أن ما يوجد فى دهاليز ومخازن دار الكتب والوثائق هو بلا مبالغة «خبيئة» موسيقية لا تقل قيمة عن أى خبيئة من كنوز مقابر الفراعنة العظام!.

وطبقا للتقارير فإن ما تم رصده وتسجيله من تلك الخبيئة الموسيقية يشمل بالأرقام:

ــ أسطوانات التراث «وتضم 4054 أسطوانة عربية و4918 عالمية و532 تركية».

ــ أسطوانات الإيداع «وتضم 8599 أسطوانة عربية و2500 عالمية و693 أسطوانة خاصة بالمكفوفين».

ــ شرائط كاسيت «39605 أشرطة عربية و4000 أجنبية».

ــ نوت موسيقية «355 عربية و 1160 عالمية».

أى أننا نتحدث فيما يخص موسيقانا عن أكثر من 12 ألف أسطوانة و40 ألف شريط كاسيت و355 نوتة موسيقية.. تغطى تراثنا الغنائى فى القرنين 19 و20 وتضم أغانى كل نجوم الغناء المصرى من زمن عبده الحامولى وسلامة حجازى ومدرسة الطرب عند المشايخ «مجموعة أسطوانات الشيخ على محمود كاملة.. مثلًا» مرورًا بنادرة وفتحية أحمد ونجاة على وإبراهيم حمودة والقصبجى وزكى مراد.. ثم أم كلثوم وعبدالوهاب ومنيرة المهدية.. وصولًا إلى أحدث أجيال الغناء المصرى.. وهو كنز من الأعمال لا يقدر بثمن..!

ولأن الأرقام ضخمة والخبيئة مغرية والمشروع يستحق، فقد شمر محسن فاروق عن ساعديه، وذهب إلى هيئات وزارة الثقافة المختصة يطلب معونتها ومشاركتها، ووجد ترحيبا من دار الأوبرا ورئيستها د. إيناس عبدالدايم، ومن صندوق التنمية الثقافية ومديرته وقتها د. نيفين الكيلانى.. وحصل تليفونيًا على موافقة وزير الثقافة حلمى النمنم على أن تكون تكاليف المشروع موزعة بين دار الكتب والصندوق ودار الأوبرا حتى لا تكون مرهقة لأى منها منفردة..

وذهب كذلك يطلب معونة د. رأفت رضوان، ليس لكونه رئيسًا لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، لكن لأنه قبل ذلك أحد العشاق الكبار لتراثنا الموسيقى والعارفين بقيمته والخبراء فيه.. وبعد دراسة وافية اجتمع الرأى على ضرورة إنشاء مركز متخصص تكون مهمته جمع وتصنيف وحفظ وأرشفة ونشر التراث الغنائى، والأهم نقله من أسطواناته وشرائطه وتحويله إلى نظام الديجيتال لحمايته من التلف والضياع.

وتقدم محسن فاروق إلى وزير الثقافة بمشروع مكتوب لإنشاء هذا المركز، يشرح دوره وأهميته وطرق تمويله، بحيث لا يمثل عبئًا على ميزانية الوزارة، ويقدم وسائل عملية للتمويل، بينها طبع هذا التراث على cd «مجموعة شهرية» وبيعها فى منافذ عدة كالمسارح والمراكز الثقافية بل والمكتبات الكبرى.. وفى المناسبات والمهرجانات الغنائية ومنها مثلا مهرجان الموسيقى العربية.

وبينها جلب رعاة وطنيين لتمويل المشروع، وبجهد شخصى حصل محسن فاروق على موافقة بنك مصر ليكون أحد هؤلاء الرعاة الوطنيين.. وعن طريق وزير الكهرباء السابق والمسئول الحالى عن قطاع الخدمة المجتمعية ببنك مصر د. على فهمى الصعيدى تم ترتيب لقاء بين محسن فاروق ومسئولى البنك.. وحصل على موافقتهم ودعمهم من أول لقاء!

لكن كيف يقدمون الدعم الموعود والمشروع لم يخرج بعد من أدراج وزير الثقافة.. فبعد شهور من تقديمه لم يتلق محسن فاروق أى رد!

كل التفاصيل موجودة فى أوراق الدراسة، بما فيها مكان إقامة المشروع فى أحد القصور الأثرية التابعة للوزارة، حيث ستنشأ فيه أماكن لحفظ هذا الأرشيف الغنائى الضخم بطريقة علمية صحيحة، وكذلك مكتبات للاستماع – صوتًا وصورة – تتاح للجمهور من عشاق الطرب، وملحق به وحدة للدراسات والأبحاث وجمع الوثائق الخاصة بتراثنا الغنائى..

كل يوم تأخير يمثل خطرًا على تلك الخبيئة، هذا إذا عرفنا أنها ملقاة بإهمال فى مخازن دار الكتب والوثائق، ومكدسة فى كراتين ودواليب وأرفف متهالكة، وعرضه للتلف والضياع.. بل إن كثيرًا من الأسطوانات القديمة بدأت فى التحلل، ومنها ما تعرض للكسر بسبب سوء التخزين.

وحسب الدراسة فإن هذا الكنز يحتاج إلى 5 سنوات من الجهد الشاق لإنقاذه، بحجم عمل بين 12 و18 ساعة يوميا طيلة السنوات الخمس.. لكنه يبقى كلامًا على ورق إذا لم يخرج المشروع من مكتب وزير الثقافة!

مصير هذه الخبيئة الغنائية التى لا تقدر بثمن يبدو غامضا، فإما أن تتعرض للتلف بفعل الإهمال «الجاهل».. وإما تتسرب وتلحق بالمكتبات الثلاث فى باريس لتفقد مصر تراثها الغنائى العظيم.. وهناك جهات خارجية تراقب وتترصد ومستعدة لأن تدفع أى ثمن فى سبيل الحصول على تلك الخبيئة الثمينة.

ولا نذيع سرًا عندما نقول إن إسرائيل تحاول جاهدة تزوير التاريخ لتثبت مشاركة اليهود فى صناعة الحضارة المصرية والإبداع المصرى.. لم يكتفوا بادعائهم أنهم بناة الأهرامات، وامتد الادعاء إلى السينما المصرية.. وإلى الغناء المصرى.. ولا أحد ينكر أن من بين رواد الموسيقى المصرية مبدعين يهودًا مثل: داود حسنى وزكى مراد «والد ليلى ومنير مراد».. ولا أحد ينكر أن أول تخت شرقى مصرى أسسه موسيقيون يهود.. ولكن هؤلاء جميعا دخلوا الوجدان المصرى من باب المواطنة وليس العقيدة.

لكن بعد قيام الدولة الصهيونية كان هناك إصرار على سرقة الإبداع المصرى، وحدث فى نهايات الستينيات أن أقدمت إسرائيل على إنشاء فرقة موسيقية اسمتها «فرقة الموسيقى العربية بأورشليم القدس» تقدم أغنيات من التراث المصرى وكأنها تنسبه إلى دولة الاحتلال، ووقتها رفعت الخارجية المصرية تقريرًا بالواقعة إلى وزارة الثقافة المصرية، وكان على رأسها د. ثروت عكاشة، وبدوره رفع تقريرًا إلى الرئيس عبدالناصر مع توصية بضرورة إنشاء فرقة موسيقية مصرية للتراث الغنائى، واهتم الرئيس بالأمر وأصدر قرارا فى نوفمبر 1967 بإنشاء فرقة الموسيقى العربية.. وكانت الفرقة فى البدايات تحظى بدعم الدولة وتشجيعها.. ومع تغير الأزمان والظروف والرؤى توارت الفرقة ولم يعد لها دور ولا تأثير ولا حس ولا خبر..

وللأسف مازالت إسرائيل والمنظمات الصهيونية تعرف قيمة وتأثير وخطورة الأغنية المصرية وأهمية تراثنا الغنائى أكثر منا.. وفتش عن أصابعهم فى صفقات المكتبات الغنائية المصرية المهمة التى تسربت فى غفلة منا إلى الخارج، ويبيعونها لنا الآن باليورو.

وفى مقابل هذا الاهتمام الصهيونى بتراثنا الفنى والثقافى تتقاعس وزارة الثقافة عن إنشاء مركز مصرى لتوثيق وحفظ التراث الموسيقى، لن يكلفها شيئًا، بل الأرجح أن يكون مصدر دخل للوزارة التى تعانى ماديًا بعد فصل الآثار عنها، ومع ذلك يعاملونه بتجاهل مريب.. أسأل محسن فاروق عن تفسيره له فيرد بغضب: أتصور أن الموضوع أكبر من مجرد إهمال وعدم تقدير، ويمكننى أن أقول إن هناك مخططًا لتصفية وزارة الثقافة، وهنا يمكننى أن أقف عند مشهدين:

الأول: هو إصرار الوزارة على غلق وتصفية خمسة كيانات ثقافية ناجحة فى توقيت متزامن، مما يعنى أن الأمر مقصود وليس مصادفة، حيث قررت الوزارة «تطفيش» نصير شمة، مؤسس بيت العود، وأحمد عبدالمعطى حجازى، مؤسس بيت الشعر العربى، وانتصار عبدالفتاح، مؤسس مركز إبداع قبة الغورى، ورمزى يس وطارق شرارة، مؤسسى المركز الدولى للموسيقى، وأنا محسن فاروق مؤسس بيت الغناء العربى.

لا يمكن أن تكون مصادفة الإصرار على عدم التجديد لنا جميعًا.. وكأنهم يستكثرون وجود مشروعات ناجحة فى وزارة الثقافة، لها جمهورها ومردودها وتأثيرها.. ويصممون على إطفاء أنوارها وتحويلها إلى خرابات!

الثانى: عندما رأيت بعينى كيف يقدر العالم ملحنًا مصريًا اسمه محمد القصبجى.. فى تركيا أقاموا له تمثالًا نصفيًا مهيبًا فى أكاديمية الفنون.. وفى روسيا يطلقون اسمه على أكبر قاعات الموسيقى ويعتبرونه من كبار المجددين فى موسيقى القرن العشرين.. عاشت موسيقانا المصرية سنوات مجد عندما كانت وزارة الثقافة والدولة المصرية حريصة على رعاية الموسيقى المصرية وتقدير مبدعيها الحقيقيين وتصدير إبداعهم.. يومها كان سفراؤنا فى قيمة محمد القصبجى وعبدالوهاب والسنباطى وأم كلثوم.. وحتى فرقة رضا فى زمن مؤسسها محمود رضا ونجمتها فريدة فهمى كانت تقدم إبداعًا مصريًا من الموسيقى والرقص يحظى بتصفيق العالم.. الآن نصدر إلى العالم «أوكا وأورتيجا» مع احترامى للجميع.. حتى عندما أرسلنا إلى الصين فنا مصريا لم نجد إلا أوبرا عايدة.. منتجنا الموسيقى الآن لم يعد له قيمة ولا تأثير فى السوبر ماركت العالمى.. يحدث ذلك دون أن تحرك وزارة الثقافة وهيئاتها ساكنًا.. وكأن الأمر لا يعنيها!