رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» تنشر الفصل الثالث من كتاب عبدالله السناوي عن هيكل

جريدة الدستور

احتفالا بالذكرى السنوية الأولى لرحيل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، تنشر «الدستور» الفصل الثالث من كتاب "أحاديث برقاش.. هيكل بلا حواجز"، للكاتب الصحفي عبدالله السناوي، أحد أصدقاء الراحل المقربين، وإلى نص الفصل الثاني من "أحاديث برقاش":

14 ألف كتاب ووثيقة ضاعت في حريق منزل هيكل بـ«برقاش»
كل شىء فى بيت «برقاش» اتسق مع شخصيته. أثاثه على ذوق رفيع واللوحات التشكيلية على الجدران، وحديقته بدت كـ«صومعة خضراء» ــ على ما وصفها الرئيس الأسبق «أنور السادات»، وشبه عزلته من وقت لآخر للقراءة والكتابة أضفى شيئا من الهيبة على المكان.
غير أن الحرائق، التى أشعلت يوم فض اعتصامى «رابعة العدوية» و«النهضة»، قضت عليه بأثاثه ولوحاته وتركت حديقته خرابا كاملا.
بعد الحرائق بأيام أرسل فريقا صور كل شىء تهدم وخرب، وكانت الصور مفزعة غير أنها لم تعكس حجم الخسارة الفادحة التى تتجاوز الرجل إلى الذاكرة العامة.
راحت فى الحرائق مكتبة ضمت (١٤) ألف كتاب من الذخائر العربية والدولية فى الاستراتيجية والتاريخ والفلسفة والعلوم الإنسانية الأخرى والآداب والفنون، كل كتاب له قيمته التاريخية والفكرية، بعضها نادر يصعب الوصول إليه، أو الحصول على نسخ منه، كان قد قرر أن يودعها فى مكتبة عامة، مع كتب أخرى لم تنلها يد التخريب والحرق، ضمن مؤسسة تحمل اسمه.. بينها نسخة أصلية مرقمة من (٨٠٠) نسخة من موسوعة «وصف مصر» طبعت فى باريس على عهد «نابليون بونابرت» وجد جزآن منها فى مصرف!
من بين ما راح مجموعات الوثائق الدولية والإقليمية حول مصر وتاريخها المعاصر مرتبة بطريقة علمية، لكل وثيقة ثبت يحدد موقعها وموضوعها، نشر أغلبها فى كتبه، أو استخدمها فى سياقات ما روى.
بدأب شديد لنحو سبعين عاما متصلة عمل على تجميع الوثائق، بعضها لم يكن من اليسير الوصول إليها، وبعضها الآخر لم يكن ممكنا لغيره أن يحصل عليها.
كتاب «السلاح والسياسة» وحده كتب من أوله إلى آخره فى نحو ألف وثيقة تركها تتحدث وتروى، تسلم كل واحدة للأخرى سياقها وتسلسلها وموضوعها، تضيف إليها وتنير ما غمض فيها، كأنه روائى يتقن حركة الحوادث فى سياقها دون أن يقحم انحيازاته بلا دليل عليها، أو خروج عن مقتضيات الحقيقة التاريخية.
بقية المجموعة استندت على نحو عشرة آلاف وثيقة أخرى وضعها فى سياق روايته للحوادث وتدافعها ليؤكد ما يريد أن يصل إليه.
«عندما تتاح الوثائق أمام الباحثين والمؤرخين والصحفيين فإنه قد تكون لهم وجهات نظر أخرى فى قصة ما جرى من صراع على المنطقة بقدر ما تتيحه العصور الجديدة من معلومات ورؤى لم تكن متوافرة فى وقتها».
لم يعد ذلك ممكنا ولا متاحا، فقد التهمت النيران عشرات الآلاف من الوثائق والمحاضر والأوراق بينها مجموعات الوثائق المصرية، التى تستغرق بالأساس الفترة ما بين ثورة يوليو (١٩٥٢) وحرب أكتوبر (١٩٧٣)، وهذه لا يمكن تعويضها على أى نحو وتحرم الباحثين والمؤرخين من فرصة الإطلال على التاريخ المصرى الحديث عبر وثائقه المؤكدة.
«الخسارة أكبر من أن يتصورها أحد» ــ هكذا قال وهو ينظر أمامه محاولا أن يخفى أحزانه القاسية.
كان الألم باديا على وجهه، لكنه لا يفصح ولا يشكو.. عود نفسه على مدى عقود أن يكون عقلانيا، أن ينظر إلى الحدث من خارجه، حتى لو كان متعلقا بأعز ما يملك.
حاول بقدر ما يستطيع إنسانيا أن يعتبر ما حدث قد حدث، أن ينسى أنه فى لحظة واحدة نجحت حالة بربرية فى حرق تراث هو بطبيعته ملك لأجيال قادمة من حقها أن تعرف بالوثائق قصة ما جرى، وأن تكون لها قراءاتها الخاصة.
فيما دمر وراح فى حرائق «برقاش» مجموعة تسجيلات نادرة لشخصيات لعبت أدوارا جوهرية فى التاريخ المعاصر، ولم يسبق أن نظر أحد فى نصوصها المثيرة.
من بينها (١٥) ساعة بصوت «حسن يوسف» (باشا)، الذى كان وكيلا ثم رئيسا للديوان الملكى على عهد الملك «فاروق» أودع فيها شهادته على ما رأى وعاين، طالبا ألا تنشر وهو على قيد الحياة، ولا تخرج لأحد إلا بعد عدد من السنين، وفق اتفاق أبرم بينهما عام (١٩٧٧) بحضور «عبدالفتاح عمرو» (باشا)، سفير العهد الملكى فى لندن.
أعلن أكثر من مرة أنه سيترك تلك التسجيلات لأجيال تأتى بعده لتطل من خلالها على ما قبل يوليو وما كان يجرى فيه بلا تدخل فى صياغة، أو حذف لرأى.
ومن بينها تسجيلات أخرى تولاها القصر الملكى وحاول أن يستخدمها للإساءة إلى سمعة زعيم الوفد «مصطفى النحاس» (باشا)، قال إنه سوف يحرقها ولن يتركها بعده.
وبعضها تحفظ مناقشات مستفيضة مع الفيلسوف الفرنسى «جان بول سارتر» وصديقته الروائية «سيمون دى بوفوار» لم يتسن نشر فحواها ونصوصها من قبل، فكر فى ترجمتها عن الفرنسية فربما تجد الأجيال الجديدة إطلالة مختلفة على الأفكار التى سادت العالم فى ستينيات القرن الماضى بأحلامها الكبيرة وتراجعاتها المدوية.
وفيما حرقت وراحت نصوص أصلية بخط يد «جمال عبدالناصر»، ونصوص خطية أخرى لمراسلات «مصطفى كامل» إلى السلطان العثمانى والخديو «عباس حلمى»، ومراسلات للورد «كرومر» المعتمد البريطانى إلى أهله، ومراسلات من نوع آخر تبادلها مع الفيلسوف «برتراند رسل»، والفيلد مارشال «مونتجمرى» بطل معركة «العلمين»، والرئيس الإيرانى الأسبق «محمد خاتمى» حول حوار الحضارات، ومراسلات متبادلة لها طبيعة مختلفة مهنيا وإنسانيا مع ألمع نجوم الصحافة العالمية فى القرن العشرين، على رأسهم كاتب الـ«نيويورك تايمز» الأكبر «والتر ليبمان»، ورئيس مجلس إدارة «التايمز» البريطانية «دينيس هاميلتون»، ورئيس التحرير المؤسس لـ«لوموند» الفرنسية «بف ميرى».. ومراسلات بين أستاذه «محمد التابعى»، وزميله «مصطفى أمين» أودعها الأول لديه لربما يحتاج إليها، لكنه لم يستخدمها أبدا.
فضلا عن وثائق لم ينشرها فى كتابه «بين السياسة والصحافة» قرر باختياره ألا يدرجها فى جزء ثان، لم يكن يريد لمعارك الماضى مع «مصطفى أمين» أن تستغرقه والعلاقات بينهما لا يمكن تلخيصها بجمل مبتسرة، أو مشاهد مقتطعة.
من بين ما كان يحتفظ به دفتر يوميات بخط يد «مصطفى أمين»، لكنه لم يشر إليه، فلم يكن بوارد التشهير الشخصى.
«لن أتركه بعدى».
كما كانت فى حوزته مراسلات من شخصية صحفية شهيرة هاجمته بأقسى النعوت، لم يكن يريد أن يذكرها بالاسم حتى لا تتساوى الرءوس، وكان نشرها ينسف جوهر التهجمات المتكررة عليه.
وفوق ذلك كله ملفات موثقة عن قصة الإعلام العربى من بعد الحرب العالمية الثانية إلى الآن، قال ذات مرة: «أريدك أن تأخذها كاملة»، لكنها راحت ضمن ما راح.


أسرار بيت الورد الذي استقبل فيه «هيكل» جيفارا وياسر عرفات

بعد رحلة طويلة استقرت الكتلة الرئيسية من كتبه ووثائقه وتسجيلاته وأوراقه الخاصة فى «بيت الورد»، وهو مبنى قديم يعود إلى خمسينيات القرن الماضى، ويطل عليك وأنت قادم على طريق معبد برمال حمراء تحيطه خضرة من على جانبيه إلى حيث كان يجلس فى حديقته الواسعة، أو ينتظرك على مدخل مكتبه، والكتب الحديثة التى ترده فى مواقيت نشرها بجوار مقعده تنتظر دورها فى القراءة، ومعها صحف اليوم يطل عليها واحدة إثر أخرى.
البيت على صورته القديمة أقرب إلى الطرز المعمارية للأكواخ السويسرية أطلق العاملون فى المزرعة عليه هذا الاسم لقربه من حديقة صغيرة تظللها «بيرجولا» تحتها مقاعد خشبية يحيطها الورد من كل جانب.
المبنى الذى قضى عليه بالكامل، بما يحتويه من ذخائر لا تعوض، هو نفسه له تاريخ، فقد استضاف بأوقات متقاربة فى الستينيات الزعيمين اللاتينى «تشى جيفارا»، والفلسطينى «ياسر عرفات»، كلاهما بدا محتاجا لوقت يخلو فيه إلى نفسه ليتأمل أفكاره وخطواته التالية.
«جيفارا» مر بالقاهرة، واطلع على التجربة المصرية وبدا منبهرا بما رأى من التفاف الجماهير حول «ناصر».
وكان قد عقد عزمه على الاستقالة من منصبه الوزارى فى الحكومة الكوبية، فهو لا يجد نفسه فيه.
شىء ما قلق داخله دعاه إلى مغادرة السلطة إلى الثورة والنفوذ إلى السلاح، فكر أن يذهب إلى إفريقيا، ولم يتحمس «عبدالناصر» للفكرة وقال له: «سوف يظنونك طرزانا جديدا».
ذهب إلى دول أخرى فى أمريكا اللاتينية حتى لقى مصرعه فى أحراش بوليفيا.
قصة مصرع «جيفارا» تحولت إلى أسطورة ووجهه صريعا بدا قريبا من المسيح مصلوبا.
قصة «عرفات» فى «بيت الورد» تختلف وطبيعة الرجلين تختلف.
كان التقى للتو «عبدالناصر»، وصاحب البيت هو الذى فتح الأبواب المصرية أمامه وقدمه للرئيس فى أجواء ما بعد النكسة وصعود منظمات الكفاح المسلح الفلسطينية، وكانت «فتح» أكبرها وأقواها.
أبلغ ثلاثة من قيادات «فتح» هم «ياسر عرفات»، و«أبوإياد»، و«فاروق قدومى»، طلبوا أن يساعدهم فى مد الجسور مع القاهرة، إنه سوف يصحبهم بسيارته الخاصة للقاء شخصية مهمة.
كانت المفاجأة أنه «عبدالناصر»، الذى لخص موقفه فى جملة واحدة: «أريد أن أسمع طلقة واحدة تدوى كل يوم فى الأرض المحتلة».
فى تلك الأيام من أكتوبر (١٩٦٧)، بأجوائها الملبدة، تبدت حسابات جديدة على الساحة الفلسطينية، وكان قائد «فتح» فى حاجة لوقت يبتعد فيه عن صخب التحولات والصراعات ليحسم بدوره خطواته التالية وقيادة منظمة «التحرير الفلسطينية» توشك أن تؤول إليه.
فى ذاكرة المكان حوارات مسهبة بمواقيت مختلفة مع الرجلين، «جيفارا» و«عرفات»، الذين أقاما فيه لأيام فى لحظة حسم مصير سجلها كعادته على ورق حفظها مع ذخائره فى «بيت الورد»، الذى دمرته النيران الجهولة.
فى المكان ذاته تحاور مع الرئيسين «عبدالناصر» و«السادات»، وكلاهما ــ على ما كان يروى دائما لضيوفه ــ له مكان يفضل أن يجلس فيه.
«عبدالناصر» فى «تراس بيت الورد»، أو على سور منخفض أمامه.
و«السادات» فى الحديقة المفتوحة.
كانت تضايق «عبدالناصر» الفترات الطويلة، التى يقضيها فى «برقاش»، حيث لا يمكن الوصول إليه، فلم تكن الاتصالات قد شهدت ثورتها الكبرى التى عليها الآن.
طلب «عبدالناصر» من وزير الاتصالات فى ذلك الوقت الدكتور «مصطفى خليل» تركيب خط هاتفى فى بيت «برقاش» حتى يمكن استدعاؤه إن اقتضت الظروف.
سألته: «ممن تعلم السادات عادته فى الجلوس بالحديقة وأن يجرى لقاءاته ومقابلاته فيها؟».
قال: «علمته خبراته ومشاهداته وتجاربه، ولا تنس السجن حيث كانت الزنازين تغلق عليه، الجلوس فى الهواء المفتوح طريقه لنسيان تجربته القاسية».
وفى ذاكرة المكان لقاءات مع رؤساء وملوك وأمراء وقادة فكر وصحفيين وفنانين من أجيال مختلفة، من بينهم الرئيس الفرنسى الأسبق «فرانسوا ميتران»، الذى خاطب «السادات» للإفراج عنه بعد اعتقاله فى حملة سبتمبر (١٩٨١)، التى أفضت تداعياتها إلى حادث المنصة.
عندما التقاه أمين عام الأمم المتحدة الأسبق «كوفى عنان» بادره قائلا: «لا يمكن أن تتذكر لقاءنا الأول، لكننى لا أنسى زيارتك لغانا المستقلة حديثا بزعامة كوامى نكروما، وقد كنت دبلوماسيا شابا فى الوفد المرافق لك».
للمكان أسراره، والأسرار أودعت على ورق، بعضها نشر، وبعضها الآخر قرر أن يحفظه للأجيال القادمة، لعلها ترى فيها ما يستحق قراءة التاريخ من جديد، لكن كانت للأقدار كلمة أخرى.


السناوي يكشف.. محاولات هيكل لتأمين وثائقه من السرقة
لسنوات طويلة ساورته مخاوفه وشكوكه من أن تصل يد التخريب المتعمد إلى الوثائق، حفظها فى مأمنها الأوروبى مرتبة بصورة تسهل استدعاء ما يريد منها إلى القاهرة عند الحاجة إليها، فكل وثيقة مرقمة فى مجموعتها، وكل قائمة محفوظات تشير إلى ما فيها.
قال: «ليست فى لندن».. «هذا كلام شائع لكنه ليس صحيحا».
اتجه تفكيره مرة بعد أخرى، عقدا بعد آخر، أن يكون مستقرها فى مؤسسة مصرية مثل «جامعة القاهرة»، أو «مكتبة الإسكندرية»، أو «دار الكتب»، لكنه لم يكن مطمئنا إلى أنها سوف تكون بعيدة عن انتقام السلطات، أو محاولات تخريبها بصورة أو أخرى.
ما أن بدأ فى تسجيل حلقات «سيرة حياة» على قناة «الجزيرة» أخذ يستدعى ما يحتاجه من وثائق وتراكمت مجموعات الأوراق والوثائق فى مكتبه بالجيزة عن حروب مصر والصراعات عليها وحولها، بعضها كشف النقاب عنها لأول مرة، وبعضها الآخر حصل عليها بعد أن أصدر مجموعة كتبه عن حرب الثلاثين سنة.
فكر فى الاستجابة لدعوة من مؤسسة «الأهرام» لاستضافة ذخائره من وثائق وأوراق، وجرت اتفاقات عصفت بها تغييرات فى رئاسة المؤسسة العريقة، ولم يكن يريد أن يضع ما لديه فى مهب التحولات.
مع أسبابه للقلق على سلامة الأوراق والوثائق مال إلى أن تظل فى مأمنها الأوروبى، وكتب وصية سجل فيها بالتفاصيل ما يتعين فعله عند نقلها والضمانات الضرورية لحفظ أمانتها إلى أجيال جديدة.. غير أن ضغوطا تصاعدت عليه من مقربين وأصدقاء وداخل أسرته دعته أن يحسم موقع مؤسسته ومستقر أوراقه ووثائقه فى حياته ولا يحيل عبء مسئوليتها لمن بعده.
فى نوفمبر (٢٠٠٥) تصور أن هناك فرصة ما لعودة أوراقه ووثائقه إلى مقرها الطبيعى فى القاهرة.
خفتت مخاوفه رغم انتقاداته المطردة للحكم، التى زادت درجة حدتها منذ محاضرة الجامعة الأمريكية الشهيرة فى أكتوبر (٢٠٠٢)، إذ بدت السلطة مشغولة بما بعد رئيسها وهاجسها مشروع التوريث والتاريخ بوثائقه لا يعنيها.
بصياغته: «لم أعد معتقدا أن ورقى مطارد».
استقر تفكيره على إيداعها فى مؤسسة تحمل اسمه وذهب إلى نقابة الصحفيين لاستئجار دور كامل يخصصه لوثائقه وأوراقه وظنه أنها سوف تكون متاحة أمام الأجيال الجديدة من الصحفيين عند ترددهم على نقابتهم، لكنه بعد أن قام بتسديد قيمة التعاقد تنازل عنها للنقابة التى ينتسب إليها وتراجع عن الفكرة، خشية أن يجد أوراقه ووثائقه وكتبه فى مرمى الاشتباكات المتكررة بمحيط شارع «عبدالخالق ثروت»، الذى يضم إلى نقابة الصحفيين نقابة المحامين ونادى القضاة.
أخذت الفكرة تبحث عن مكان آخر أكثر أمنا لسلامة وديعته للأجيال القادمة.
فى ذلك الوقت كتب على ورق تصوراته لـ«مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية»، التى قرر أن تضم كل ما لديه من وثائق ومحاضر وأوراق وكتب.
أودع نسخة من المذكرة لدى نقابة الصحفيين، كما أودع نسخا أخرى لدى أصدقاء ومقربين.
هناك ثلاث علامات رئيسية فى تلك المذكرة، الانفتاح على العصر وحقائقه، عروبة الرؤية فى طبيعة عمل المؤسسة، والتركيز على الأجيال الجديدة من الصحفيين.
ما لم يشر إليه فى مذكرته أن قيمة الوقفية، التى خصصها للصرف على أوجه نشاط المؤسسة، بلغت (٥) ملايين دولار قابلة للزيادة وفق الاحتياجات.
بعد ثورة «يناير ٢٠١١» طرحت عليه أسرته أن تكون «برقاش» مقرا لمؤسسته، استمع لما عرض عليه من «أصحاب الحق فى الإرث»، مدركا «أن المسألة أكبر من أن تكون تركة أو إرثا»، لكن العرض دعاه أن يحسم موضع الوثائق متصورا أن «المكتبة ينبغى أن تظل فى مكانها ببيت الورد لا تنقل لمكان آخر».
بدأ يخضع المكان لتخطيط جديد، يكون فيه «بيت الورد» مستقرا للكتب والوثائق وتشرف عليه نخبه تتوافر فيها القدرة على إدارة المؤسسات الدولية من هذا النوع، وأن يخصص الدور الأول فى البيت الأحدث والأوسع لزوار المؤسسة ويحتضن الدور الثانى الخبراء والباحثين.
أعدت التصميمات لإحالة مزرعة «برقاش» كلها إلى الخدمة العامة ووضعت الوقفية تحت تصرف المؤسسة والقائمين عليها.
رغم ذلك انتابه قلق من المكان عندما طلب أن ينظر فى صور «جوجل إرث» للمنطقة المحيطة.
«لم تكن الصور مطمئنة وحزام القلق الاجتماعى ظاهر عليها».
لكنه طمأن نفسه بأن «المنارات الفكرية فى أحزمة القلق الاجتماعى تكسبها شيئا من التنوير وإطلالا مختلفا على عوالم جديدة».
ما إن بدأ يطمئن إلى اختياره الأخير الذى قطع فيه زمنا طويلا، حتى فاجأته جحافل الظلام تنقض بقسوة لم يتحسبها ولا خطرت على باله فى أكثر الاحتمالات سوداوية وتشاؤما.
تصدق فى قصة وثائقه وأوراقه الحكمة العربية المتوارثة «الحذر لا يمنع قدر».


قصة رهان هيكل لعبد الناصر على كتابة تاريخ الثورة
كان يدرك أن الذاكرة الإنسانية، مهما بلغت من قدرة على استعادة الأحداث والوقائع، لها حدود، ثم أن الزمن يلعب دوره بما يؤثر على صدق الرواية، وكان تقديره أن أهم ما عنده هو مجموعة أوراقه الشخصية التى سجل فيها بخط يده ما رأى وما سمع.
بصياغته: «كتبتها كى لا أنسى حين الحاجة إليها لتوثيق السجل، أو حين يحين أوان الكتابة والنشر، وفى كل الأحوال فإن هذه الأوراق الشخصية ذاكرة رجل وليس ذاكرة وطن».
«شبه مفكرات وليست مذكرات».
على هذا النحو الدقيق والصارم فى العمل، الذى ألزم به نفسه على مدى عقود طويلة ومتصلة، أخذ يسجل وقائع الحياة السياسية المصرية، وينشد وثائقها، تمنيا ــ فى ذروة صعود «عبدالناصر» والصراع على المنطقة ومقاديرها ــ أن يروى ذات يوم قصة ما جرى.
وبصياغته: «لم أترك ما مر أمامى يضيع وإنما حاولت أن أسجله موثقا».
«لا أتصور أن ذلك يحمل مظنة أى نوع من أنواع الاحتكار للحقيقة، فما أتيح لى كان متاحا لغيرى، فى مثل ظروفى، وكان الفارق الوحيد أن الكتابة فى يوم من الأيام كانت ــ بحكم المهنة ــ فى خواطرى ولم يكن الأمر كذلك لغيرى، وإنما طرأ فيما بعد لسبب أو لآخر».
كان يعرف ماذا يفعل، وماذا يقول، وكيف يتكلم، ومتى يتكلم، ثم أن يكون ذلك كله موثقا ودقيقا.
«الكلام المرسل لا قيمة له فى كتابة التاريخ».
راهن «عبدالناصر» على أنه المؤهل ــ وحده ــ لكتابة تاريخ الثورة والصراع على المنطقة، وكان رهانه فى محله.
طوال الوقت طاردته الأسئلة عن مصير ما لديه من وثائق، كتب وألح كثيرون على عودتها إلى مصر، وهو نفسه فى مقدمات مجموعة كتبه عن حرب الثلاثين عاما فى طبعاتها الجديدة أخذ يتحدث عن الوثائق بمداخلات مختلفة، قبل أن يعترف أخيرا بأنها باتت عبئا على مشاعره.
فى ذلك الوقت عرضت جامعة «أوكسفورد» البريطانية شراء مجموعة أوراقه الخاصة، التى تضم وثائق مهمة للدولة المصرية فى عهدى «عبدالناصر» و«السادات» لتضمها إلى مكتبتها، ومن تقاليدها السعى وراء مجموعات الوثائق والأوراق الخاصة لشخصيات دولية لعبت أدوارا بارزة فى التاريخ الإنسانى المعاصر، بما يضفى قيمة مضافة على تلك المكتبة.
جرت العادة فى الجامعة العريقة أن تقدر القيمة المالية لمجموعات الوثائق والأوراق بما تحتويه من معلومات غير متوافرة وبما تغطيه من فترات تاريخية واسعة.
وقد قدرت «أوكسفورد» قيمتها بـ(٣) ملايين جنيه إسترلينى، غير أنه اعتذر عن قبول هذا العرض شاكرا لأصحابه: «فضل الاهتمام والتقدير بما لديه من وثائق وأوراق شخصية».
وكان اعتقاده أن مصر، وليس بلدا آخر غير مصر، المكان الطبيعى والمستقر النهائى لوثائقه وأوراقه، التى احتفظ بها لسنوات محفوظة ومصانة خارجها خشية أن تتدخل تعقيدات السياسة بما قد يحرم أجيالا قادمة من حق الاطلاع على وثائق حقبة تاريخية مهمة ومفعمة بالتحولات والحروب والأحلام والكوابيس.
غير أن حرائق «برقاش» ــ فى نهاية القصة الطويلة ــ أودت بكتلتها الرئيسية.