رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

روايتان.. وجزيرتان أيضًا «2-2».. هل تخيلت نفسك موظف استقبال فى فندق بمكة المكرمة؟



دارت الأرض دورتها، وظهر البترول بغزارة وتطورت الحياة فى السعودية وظن كثير من أبناء الأجيال التالية أن «مصر» مجرد بلد! وليست منارة حضارة وثقافة ومحبة!، والروائى المصرى «محمود عبدالوهاب» ينتمى إلى جيل التسعينيات، وستدور تجربته فى رواية «العيش فى مكان آخر» فى هذه الفترة الزمنية وتبعد عن زمن رواية «بدرية البشر» عشرين عاماً تقريباً؟، لذا نجده يصطدم من خلال البطل بكثير من هؤلاء المتغطرسين عن جهل وعدم وعى، فلك أن تتخيل نفسك موظف استقبال فى فندق بمكة المكرمة!، لا أظن تجربة روائية سبقت هذا العمل فى الدخول إلى تلك المنطقة الوعرة، بل والدخول إلى «جنوب إفريقيا» بشوارعها وميادينها وطباع المسلمين المقيمين فيها ممن تعرف عليهم البطل خلال عمله بالفندق وبحث معهم عن إمكانية الهروب من مكة وبداية حلم جديد فى مكان يحمى كرامته ويصون آدميته التى ستظل هاجسه طول الوقت.

فى مكة ذقت لأول مرة طعم وإحساس المواطن من الدرجة الثانية، كان سعوديون كثر ينادوننا فى بهو استقبال البرج الفندقى هكذا: يا مصرى! كان هذا يثير غضبى إلى أقصى درجة، لكنى ممنوع من أن أعبر عن هذا الغضب إلا بالتلكؤ فى معظم الأحيان، كأن أكون معطياً إياه ظهرى، أغضب فى داخلى وأرغب فى الشجار معه ورد إهانته، ولكنى أعرف أن هذا ما يريده، وشجار واحد كفيل بتهديد وجودى فى المملكة، لم يكن كل السعوديين يفعلون هذا بالطبع، كان بعضهم ينادى: يا أستاذ، أو يقول السلام عليكم، وعندما ألتفت له يبادرنى بعبارة «حياك الله» ثم يدخل فى الموضوع». فى هذه الأجواء القاتمة تأتى لغة بسيطة هادئة تشبه طباع بطلها «يوسف» الذى يعمل فى أبراج مكة بجوار الحرم، وهو شاب مصرى يمتلك خبرات فندقية كبيرة، ولكى يخفف عن نفسه وطأة المناخ النفطى الذى يسيطر على المعاملات بين الموظفين والنزلاء من حجاج بيت الله، اختار أن يتعامل مع مسلمى جنوب إفريقيا وغيرهم ممن يتحدثون الإنجليزية، ربما يبتعد عن أجواء الاستعلاء والغرق فى الدونية والانتهازية التى أصبحت قاموس التعامل فى ردهات الفندق. ومن الصفحة الأولى فى الرواية يضعك الكاتب على حافة الخطر الذى يهدد مستقبل البطل الذى أصابه ملل شديد ولم يعد قادراً على تحمل الحياة فى المملكة، فقرر العودة للقاهرة والانطلاق إلى جنوب إفريقيا بحثا عن «مكان آخر». فرصة الخروج للعيش فى مكان آخر يحفظ الكرامة جاءت مع ظهور السيدة «فضيلة» التى اتفق معها على تأسيس شركة سياحة فى جنوب إفريقيا، يكون مقرها الرئيسى فى مدينة «دربان» التى تقيم فيها: «أقوم بالحجز للأفارقة الراغبين فى أداء الحج والعمرة، وأجمع الأموال وأتراسل مع الفندق الكبير نفسه فى مكة، وأدفع تأمين المواسم الكبيرة من حسابها الخاص فى لندن». ويستقبله ابنها «رياض» المتهور الذى سيأخذ البطل من المطار فيعرف أنه بصدد مجنون قيادة سيارات، ولكن هل يصل الجنون إلى «الموت» ويضحى الكاتب بنهاية لطيفة تجمع البطل بالسيدة الإفريقية ويتم المشروع فى تبات ونبات؟! فعلها محمود عبدالوهاب ومات رياض بعد ساعات من توصيل البطل الذى نجا من الموت ودخل دوامة البحث من جديد عن شريك يضمن له العيش بكرامة، بعد أن دهس رياض الأمل. هناك «تسنيم» التى عرفها فى مكة وهى أيضاً سيدة أعمال، لكنها الأنثى الأروع بلا جدال، ظل مفتوناً بعينيها الباسمتين وجاذبيتها الطاغية وقوامها اللين الملفوف، فعلها محمود عبدالوهاب ودخل مغامرة الكتابة عن مدن جنوب إفريقيا فى رحلة الوصول إلى «تسنيم»، ولم يغفل خلفيات الأحداث التى تقع الرواية فى زمنها والتى كاد البطل يدفع ثمنها، فنحن فى التسعينيات وجنوب إفريقيا يعيش غليان ما بعد ثورة مانديلا، حيث تسيطر الفوضى على مناطق بعينها: «لأن السود وهم يمثلون تسعين فى المائة من السكان أحسوا فجأة أن بلادهم صارت لهم بعد أن كانوا جوعى ومشردين وأن بوسعهم أن يفعلوا ما شاءوا، فانتشرت حوادث السرقة بالإكراه والقتل أيضاً إن لم يستجب الضحية لرغبة الجانى، كان الهنود وهم يمثلون الطبقة الثرية التى آلت إليها أملاك البيض هدفاً لهذه الأحداث، دون أن تستطيع الدولة حمايتهم أو تأمين البيوت والناس والشوارع، فالديمقراطية الوليدة تمنع قمع الحريات». والرواية تجدد الذهن وتدخل بالعقل عوالم جديدة عن حياة موظفى الفنادق وخبراتهم الواسعة، وتأخذك بدفء مع هذا الشاب اللطيف الذى يعشق الموسيقى ويريد العيش بكرامة وآدمية إلى مدن لم تعرفها، لا يفتقد البطل شيئاً مما يجب أن يمتلكه شاب فى عمره، يمتلك الخبرة واللغة الإنجليزية، وموهوب فى التعامل مع البشر حتى وإن استفزه «بدوى» جاف الطباع، لذا فهو قانع بما يجرى، فها هو يعود بعد كل هذا العذاب إلى مكة ومنها سيعود للقاهرة، وهنا تجلت الروح التى لم تظهر وسط كل هذا الصراع مع الحياة، فقد استطاع عقب موسم الحج وخلال فترة وقف العمرة أن يدخل الكعبة المشرفة ويصلى فى اتجاه أركانها الأربعة، وجلس وراء حجر إسماعيل وأخذ يتأمل المشهد: «كان كل شىء يبدو هادئاً ذلك العصر، الشمس حانية، والناس قليلون، والرخام الأبيض يلمع ويعكس شيئاً من أشعة الشمس على عينى فأغلقها منتشياً وأرى نفسى فى شرم الشيخ». وأظن أن من يقرأ الروايتين ويتعرف على الفارق الزمنى بينهما سيعرف لماذا تحول هذا التاريخ إلى ركام تحت صنادل بعض المتعجرفين من كتاب الأعمدة فى الصحف السعودية ولماذا غاب وضاع صوت عقلاء المملكة ممن يعرفون أن مصر منارة وليست هى الدولة التى يجب الصراع معها حول جزيرة!.
فى مكة ذقت لأول مرة طعم وإحساس المواطن من الدرجة الثانية كان سعوديون كثر ينادوننا فى بهو استقبال البرج الفندقى هكذا: يا مصرى!