رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» تحقق فى فوضى العلاج المجانى

حكايات الموت على نفقة الدولة

مستشفي ـ ارشيفية
مستشفي ـ ارشيفية

نظريًا يحتاج المريض المصرى من محدودى الدخل إلى إجراءات بسيطة للحصول على قرار بعلاجه على نفقة الدولة، لكن عمليا يموت المئات على بوابات وزارة الصحة قبل استصدار القرار.. كيف يحدث هذا؟ ولماذا؟. ما بين دستور يكفل لكل مواطن حق العلاج على نفقة الدولة، وبين تصريحات حكومية ترسم واقعا أخضر حول منظومة الصحة فى مصر، وبين مرضى غلابة، عاشوا معاناة صعبة مع المرض، ومع السعى على مكاتب موظفى وزارة الصحة، ومسئوليها

«الدستور» حاولت فتح الملف، وسعت إلى استكشاف أطرافه، ومعرفة مواقعهم من تلك الفجوة، ودورهم فيها، بدءا من مرضى، يعانون، ويسافرون هنا وهناك، ويموت بعضهم فى طابور الانتظار، لا واسطة تسعفهم، ولا حكومة تلتفت إليهم.

كمال.. طردوه من معهد القلب فمات

الدكتور: ألو الأستاذة دينا؟ أنا الدكتور فلان، استشارى أمراض القلب، وعلمت بمرض والدك، وعلى استعداد لتحمل تكاليف العملية والعلاج؟.


دينا: شكراً يا دكتور، والدى توفى، وفى طريقنا لدفنه فى المقابر.


تروى دينا كمال صالح، 24 عامًا، قصة والدها لـ«الدستور»، مبدية تعجبها من تأخر الاهتمام بمرضه القاتل.


عاش كمال صالح، ابن شبرا الخيمة، معاناة مريرة بعد إصابته بأمراض الضغط والسكر والقلب، واضطرته الظروف المادية السيئة لطرق أبواب العلاج على نفقة الدولة والتى لم تستجب لآلامه. 


تدهورت حالته ووضع تحت الملاحظة فى إحدى غرف الرعاية المُركزة بمعهد القلب بإمبابة فى نوفمبر 2014، حيث وصف التقرير الصحى حالته بـ«انسداد ثلاثة شرايين بالقلب واحتياجه لعملية جراحية لوضع ثلاث دعامات دوائية لإنقاذ حياته».


كان ثمن الدُعامات 36 ألف جنيه، لكن كمال وابنته لم يتمكنا من تدبير المبلغ، أو استصدار قرار العلاج على نفقة الدولة، فقام مدير الرعاية الدكتور «ص. ن» بطرده من المستشفى.




هاجر.. قتلها «الجوشر» وتعنت «الصحة»

ولدت هاجر بمرض نادر، هو «الجوشر» أو التمثيل الغذائى، عاشت 11 عامًا، ثم ماتت به.


بحسب الحكم فى الدعوى القضائية رقم 15429 لعام 2013، والتى أقامها والد هاجر، إبراهيم مستجير، فإن وزارة الصحة ملزمة بصرف دواء «نجلزام» للطفلة، وعلاجها على نفقة الدولة سريعًا «لمحاولة تجنب الآثار السلبية الصحية التى ظهرت عليها»، حسب منطوق الحكم.


 أوراق القضية فى محكمة القضاء الإدارى بالمنصورة، تضمنت رفضًا رسميًا لعلاج هاجر، لأن التكلفة السنوية للعلاج 4 ملايين جنيه، وهو مبلغ يتجاوز الحد المسموح به قانوناً، والذى يبلغ 5 آلاف جنيه لعلاج أى حالة مرضية، وفق مخصصات الميزانية المالية لمحافظة الدقهلية. 


مسئولو هيئة التأمين الصحى امتنعوا عن صرف العلاج، مما تسبب فى حدوث مضاعفات صحية خطيرة، بدءا من انحناء العمود الفقرى وقصور فى عضلة القلب وتيبس فى المفاصل وتضخم فى الكبد والطحال، ثم الوفاة.



عمر: السفر للخارج للأغنياء فقط

بعد نجاح عمر إبراهيم، 24 عامًا، فى استصدار قرار العلاج على نفقة الدولة بمستشفى الحضرة بالإسكندرية وموافقة اللجنة الثلاثية بالمجالس الطبية المتخصصة بمدينة نصر لصرف «حقن البوتوكس» لعلاجه المزمن من إصابته بالشلل وتصلب الأطراف الأربعة المزمن والشلل الدماغى، لم يتراجع المرض، بل ازدادت حالته سوءا، ولما تقدم بطلب للعلاج على نفقة الدولة خارج مصر، تم رفضه. 


يقول عمر: «يوافقون على علاج الأغنياء فقط، ويمنعون الفقراء المرضى قليلى الحيلة».



حورية.. ضحية السرطان والقوانين العقيمة

«حورية نجت من السرطان مرة، لكنه قتلها فى المرة الثانية، لأن الدولة رفضت علاجها، بدعوى أن القانون يرفض تقديم العلاج لمن عاوده المرض»، هكذا تحدثت هبة الشاذلى الصديقة المُقربة لـ«حورية فياض».


 ماتت حورية عن عمر 30 عامًا، بعد أن قدمت طلبًا للحصول على دواء «هيربستن»، والذى يتكلف 66 ألف جنيه، وجاء رد المجالس الطبية المتخصصة التابعة لوزارة الصحة بالرفض، لأن «بروتوكولات العلاج على نفقة الدولة لا تنطبق عليها، ولأنها لا تملك واسطة»، حسبما تقول هبة.


 قبل أيام من وفاتها، كتبت حورية على صفحتها فى فيسبوك، عن حلمها بتغيير بروتوكولات العلاج والقوانين لتشمل كافة المرضى على حد سواء.


قرارات العلاج بالواسطة.. والوزارة:لا تعليق

وفق الموقع الرسمى لوزارة الصحة، فإن الشبكة القومية للعلاج على نفقة الدولة تنتشر فى جميع محافظات الجمهورية، حيث تشمل 12 مستشفى من كبريات المستشفيات، و250 مستشفى للحميات والصدر والرمد ومراكز ومعاهد الأورام، كما يُسمح لـ400 مستشفى أخرى باستخدام موقع الشبكة القومية لتسجيل طلبات علاج المواطنين على الإنترنت، بموجب القرارات الوزارية.


وبحسب الموقع نفسه، فإن هناك إجراءات محددة يتبعها المريض من أجل استصدار قرار علاج على نفقة الدولة، تبدأ بالتوجه إلى أقرب مستشفى يقدم خدمة العلاج على نفقة الدولة فى المحافظة التابع لها، أو إلى مقر المجالس الطبية المتخصصة، حيث يتم توقيع الكشف الطبى عليه من خلال لجنة ثلاثية، ثم تحرير تقرير طبى آخر من الطبيب المتابع للحالة.


وعندما يستكمل المريض أوراقه، ويعد ملفًا يتضمن صورة من بطاقة الرقم القومى وكل التقارير الطبية والأبحاث الخاصة بحالته، يتوجه بها إلى قسم العلاج على نفقة الدولة، ويقوم الموظف بتسجيل نموذج طلب العلاج الإلكترونى عن طريق الشبكة القومية للعلاج على نفقة الدولة وإرسالها للمجالس الطبية المتخصصة، لاستصدار القرار النهائى.


لكن، وبحسب مسئول فى مستشفى قصر العينى الفرنساوى، طلب عدم نشر اسمه، فإن المرضى ممن لديهم معرفة أو صلة قرابة بموظف أو طبيب يستطيعون استصدار قرار علاج على نفقة الدولة بسهولة شديدة.


لعدة أيام متواصلة، حاولت «الدستور» التواصل مع مسئولى وزارة الصحة بدءًا من الدكتور خالد مجاهد، المتحدث الإعلامى باسمها، والدكتور عماد كاظم، رئيس المجالس الطبية المتخصصة، عبر الاتصال الهاتفى والرسائل النصية، للرد على الشكاوى، والإجابة عن الأسئلة المطروحة، لكن دون رد.


أوجاع الغلابة على باب المجالس الطبية

حول مقر الإدارة العامة للمجالس الطبية بمدينة نصر، التقت «الدستور» العديد من المرضى من جميع محافظات مصر، جاءوا لاستخراج الموافقة النهائية لقرار العلاج على نفقة الدولة.


يجلس المرضى وأقاربهم على المقاهى فى شارع خلفى بجوار «المجالس الطبية»، وفى الداخل عشرات ينتظرون كلمة تطمئنهم. إحدى الموظفات تتأفف وتتحدث بصوت عال، بينما موظف آخر يعمل بهمة ويحاول التخفيف عن كاهل المرضى وأهاليهم.


من الساعة الثامنة صباحًاً، ينتظر صالح عبدالحميد، الذى جاء من محافظة أسيوط لتصحيح خطأ أحد الموظفين بعد استصدر قرار علاج على نفقة الدولة لوالدته المريضة بالسرطان: «القرار نقل والدتى من معهد جنوب مصر للأورام بأسيوط إلى مدينة قويسنا بمحافظة المنوفية».


يحتج صالح عندما تتجاوزه مريضة فى الدور، وتنهى أوراقها سريعا، ويتهمها بأنها على صلة قرابة بأحد الأطباء، سهل لها الإجراءات.


لأكثر من جهة يتنقل أحمد مرزوق، البالغ من العمر 54 عامًا، المقيم بمنطقة الدرب الأحمر والمريض بفيروس الكبد الوبائى لاستخراج التقارير الطبية، فمن تقرير طبى إلى كشف صحى ثم توصية، ثم تقرير بالكشف يتم تمريره عبر أحد الأطباء لاستصدار القرار النهائى سواء بالموافقة أو الرفض.


يقول مرزوق: «ذهبنا للدكتور (ع، س) بمستشفى قصر العينى، إحدى الممرضات قالت إنه المسئول عن تمرير الموافقة النهائية للعلاج على نفقة الدولة، وتقدمت بشكوى للإسراع بالموافقة دون رد».


الحق فى الدواء: الحل في توزيع عادل للميزانية

يقترح محمود فؤاد، مدير المركز المصرى للحق فى الدواء، إعادة توزيع المخصصات المالية بشكل عادل وتخصيص الجزء المالى الأكبر لصالح المريض، إذ لا تكفى المخصصات المالية لعلاج المرضى على مستوى مصر، بسبب شمولها ميزانية وبند أجور الموظفين.


وينتقد «فؤاد» حالات الفساد الإدارى، والأخطاء المتعمدة من بعض الموظفين فى ميكنة برنامج العلاج على نفقة الدولة، والتى قد تتسبب فى نقل مريض لعلاجه من محافظة لأخرى مما يُعد مشقة عليه.


ويشدد «فؤاد» على ضرورة رفع ميزانية العلاج على نفقة الدولة لتصل إلى 6 مليارات جنيه، خاصة مع ارتفاع أسعار الدواء، وإعادة توزيع النفقات، وفق الحالات الأكثر احتياجًا، والتى تشمل الأمراض السرطانية ومرضى الحالات الخطرة فى غرف العمليات.


ويلفت «فؤاد» إلى أن المدة التى يستغرقها استخراج قرار العلاج على نفقة الدولة قد تطول لأسابيع أو أشهر، بسبب أخطاء وتأخر الموظفين فى الرد، وربما يموت المريض على أعتابها. مطالبا بتشديد الرقابة على منظومة العلاج على نفقة الدولة. ويكفل الدستور حق المواطن فى تلقى الرعاية الصحية، حيت تنص المادة 18 على أنه «لكل مواطن الحق فى الصحة وفى الرعاية الصحية المتكاملة وفقاً لمعايير الجودة، وتكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التى تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافى العادل.


وتلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيًا حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وتلتزم الدولة بإقامة نظام تأمين صحى شامل لجميع المصريين يغطى كل الأمراض، وينظم القانون إسهام المواطنين فى اشتراكاته أو إعفاءهم منها طبقاً لمعدلات دخولهم. 


ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة. وتلتزم الدولة بتحسين أوضاع الأطباء وهيئات التمريض والعاملين فى القطاع الصحى. 


وتخضع جميع المنشآت الصحية، والمنتجات والمواد، ووسائل الدعاية المتعلقة بالصحة لرقابة الدولة، وتشجع الدولة مشاركة القطاعين الخاص والأهلى فى خدمات الرعاية الصحية وفقاً للقانون».