رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معظمهم من الإثيوبيين الموجودين بالقاهرة

المستعبدون فى شوارع مصر

 المستعبدون فى شوارع
المستعبدون فى شوارع أكتوبر

> سماسرة يوظفون اللاجئين المعتصمين أمام «مفوضية الأمم المتحدة» فى «أعمال سخرة» مقابل "أكلة ونومة"
> شهادات الضحايا: تعرضنا للضرب والسحل فى الشوارع والحبس والتهديد بالقتل
> فاطمة الاثيوبية: صاحب العمل قالى: «انتوا الحبشيين عبيد»
> المفوضية ترد: نقدم الدعم للاجئين الأكثر ضعفاً والمسجلين لدينا

عند الواحدة من ظهر يوم الخامس والعشرين من شهر ديسمبر ٢٠١٦، توقفت سيارة نصف نقل حمراء، بالقرب من المفوضية العليا لشئون اللاجئين، فى الحى السابع، بمدينة السادس من أكتوبر التابعة لمحافظة الجيزة، حيث يعتصم العشرات من الأفارقة، وترجل منها رجل ضخم أسمر البشرة، يرتدى جلباباً. تحدث قليلاً مع بعض المعتصمين، قبل أن يعود لسيارته، ويتبعه إليها بعض الشباب ذوى البنيان الجسمانى القوى.
يشرح آدم محمد، الإثيوبى الثلاثينى، الذى ينتمى لقبيلة الأورومو، ما حدث بقوله: «بعض الدلالين يأتون إلى هنا، ويأخذون بعضنا للعمل فى المزارع وخدمة المنازل وبعض الأعمال الأخرى، مقابل أموال ومعيشة. ونوافق لأننا لا نملك الطعام والشراب منذ ٢٣ يوماً».
آدم وصل لمصر هارباً من حكومة بلاده التى تعادى قبيلته، ليقع ضحية لسماسرة اللاجئين الذين يستعبدونهم فى أعمال شاقة مقابل أجور زهيدة.
تكشف «الدستور» فى هذا التحقيق، تحول أسر وأصحاب أعمال مصريين، إلى سماسرة يستعبدون اللاجئين الأفارقة، القابعين على أبواب مفوضية شئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، مستغلين ظروفهم المعيشية السيئة، للزج بهم فى أعمال شاقة مقابل أجور قليلة، فى غياب لدور المفوضية، التى من المفترض أنها ترعى اللاجئين وتتولى مهمة توعيتهم بحقوقهم، فضلاً عن غياب دور السلطات المصرية وجمعيات المجتمع المدنى المهتمة بحقوق اللاجئين.
وفقاً لنص اتفاقية منظمة العمل الدولية الخاصة بالسخرة «تعد عملية توظيف أو انتقال أو نقل أو تقديم ملاذ لأناس، بغرض استغلالهم فى أعمال غير مشروعة، كالتهديد أو استخدام القوة وغيرها من أشكال الإكراه أو الغش؛ اتجاراً بالبشر».

فاطمة.. طريدة سد النهضة
فاطمة، فتاة إثيوبية، 25 عامًا. وصلت إلى مصر بطريقة غير شرعية بصحبة زوجها وعدد من أصدقائهما، بعد أن طاردتهم الحكومة الإثيوبية لتواجدهم فى الأراضى المخصصة لإنشاء سد النهضة الإثيوبى.
فاطمة، فى مقابلة مسجلة معها، قالت إنها وصلت إلى مدينة أكتوبر بعد رحلة شاقة عبر طرق برية يسيطر عليها سماسرة البشر جنوب أسوان، وإنها ورفاقها دفعوا نحو ألفى دولار، ليتمكنوا من دخول مصر.
تقول فاطمة: «إحدى السمسارات أخذتنى من أمام المفوضية للعمل لدى عائلة سكندرية كخادمة فى أعمال النظافة لمدة 22 يوماً. أصبت بقرحة فى معدتى وعولجت وعدت للعمل مجددًا، وعندما طلبت أجرتى المتفق عليها مع السمسارة، سبتنى صاحبة البيت ونهرتنى، وقالت لى «إنتو الحبشيين عبيد». وحبستنى فى المنزل، وأجبرتنى على العمل فى خدمتهم بالقوة، وهددتنى بالقتل.
تحكى فاطمة أنها استطاعت الهرب من تلك العائلة، واستأجرت غرفة صغيرة فوق أحد الأسطح بالإسكندرية، ثم عملت عند عائلة أخرى، لكنها «كانت أسوأ مما قبلها»، بنص تعبيرها: «كانوا يحذروننى من لمس الثلاجة والاقتراب من أى طعام، فظللت جائعة ليومين، ثم أعطونى ملعقة سكر وشاى فى كوب فارغ وساندوتش فائضاً عن حاجة أبنائهم».
تكمل الفتاة: «فتحت الثلاجة فى أحد الأيام وأكلت فتات الطعام المتبقى، إلا أن الابنة الصغيرة ضربتنى وقالت لى: مين قالك تاكلى، وجاءت أمها وأكملت علىّ، وطردتنى الساعة 4 فجراً بالرغم من غزارة الأمطار حينها، دون أن تعطينى جنيهاً واحداً من حقي، فاضطررت للبقاء تحت سلم المنزل حتى الصباح، ثم اتصلت بزوجى، وذهبنا للمفوضية».
روت فاطمة قصتها لمسئولى المفوضية «من خلال الفتحة الصغيرة المخصصة لاستقبال الشكاوى، إلا أنهم لم يفعلوا أى شىء، رغم أننى مسجلة لديهم منذ عام. وما زلت أقيم مع زوجى فى الشارع».
تؤكد فاطمة أنها ترى سماسرة يأخذون الشباب والفتيات المقيمين أمام المفوضية، لخدمتهم مقابل مئات الجنيهات يدفعونها مقدماً لأهاليهم، وفى المعظم يكون هؤلاء السماسرة من مصريين وعرب. منوهة بأن بعض أقاربها وزملائها عملوا لشهور لدى عائلات، ثم لم يحصلوا على أى أموال. بل إن أصحاب العمل يجيبونهم كلما طلبوا شيئاً: «أكلتوا وشربتوا بيهم».

السخرة خير من نوم الرصيف
محمد عبدالرحمن، 20 عاماً، أفريقى لاجئ، يتهم مفوضية الأمم المتحدة بأنها لم توفر لهم شيئاً منذ قدومهم، وهو ما دفعه مع عائلته للبحث عن عمل بمساعدة أحد السماسرة، فكان نصيبه مع شقيقه العمل فى مزارع الفاكهة بمحافظة الشرقية.
يحكى محمد أن غالبية المزارع تستعين بعمال مصريين وأفارقة تتراوح أعمارهم ما بين 15 و45 عاماً. وإن كانوا يفضلون الأفارقة «لتمتعهم ببناء جسدى قوى، وقدرتهم على التحمل والصبر لساعات كبيرة، ولأنهم هنا بلا مأوى، فلا أحد سينصفهم، حسب قوله.
محمد يقول إن العمل شاق جداً، فاليوم يستمر من السادسة صباحاً وحتى السابعة مساء. ولا أستطيع التحرك من العمل إلا بموافقة صاحب العمل». ورغم هذا، فالوضع بالنسبة إليه أفضل حالاً من النوم على رصيف المفوضية، والتعرض للأمراض والحشرات والأمطار الغزيرة، وبعيداً عن ترصد العدائيين من البلطجية الذين يضايقونهم، وعن جيران المفوضية الذين يطردونهم مراراً من المنطقة.

 ذراع بـ 200 جنيه
حامد نور، شاب إثيوبى، 25 عاماً، تمكن من الحصول على فرصة عمل فى أحد مصانع البلاستيك بمدينة نصر، بمساعدة سمسار بشرى يعمل أيضاً حارساً للعقارات فى مدينة 6 أكتوبر.
اشتكى حامد من أن السمسار اشترط حصوله على نصف أجره لمدة شهرين، مقابل التوسط له ليتم تشغيله. وبعد 3 أشهر من العمل، انحشر ذراعه اليمنى فى الماكينة التى يعمل عليها، وانفجرت الدماء منها فى كل اتجاه، وطلب زملاؤه من العمال الإسعاف له، وكانت النتيجة هى بتر ثلثى ذراعه.
غادر حامد المصنع، بعد أن أعطاه صاحب العمل ألفى جنيه، لضمان سكوته، مخلفاً وراءه نحو 100 عامل أفريقى آخر، مهددين بقطع عيشهم إذا تضامنوا معه.
حامد يعيش الآن، عاجزاً عن العمل، مع 50 أفريقياً آخرين فى حجرة واحدة، يتراصون كالنمل بأجساد منهكة كل مساء. يقول: تقدمت بشكوى إلى المفوضية لكن لا أحد يستجيب.
 
فى مستشفى المجانين
«طلبنا مساعدة المفوضية وحدثت بيننا وبين موظفيها مشادات ومناوشات، ثم فوجئنا بتخديرنا، ولما استيقظنا وجدنا أنفسنا بمستشفى للأمراض العقلية فى منطقة بهمان التابعة لحلوان»، كانت هذه شهادة 7 لاجئين، رووا لـ«الدستور» أنهم لم يستطيعوا الهرب، وكانوا يحصلون على أدوية مهدئة وحقن 3 مرات فى اليوم لـ22 يوماً كان يزورهم خلالها أصدقاؤهم من الأفارقة بعدما سمحوا لهم بذلك، ولما خرجوا من المستشفى لم يجدوا جهة أو مسئولاً فى مصر يشكون إليه ما حدث، حسبما قالوا.

همّ اللى بيتحايلوا علىّ
«الدستور» تحدثت إلى الشيخ مجدى، أحد من يطلقون عليهم سماسرة البشر. ويعمل حارساً لأحد العقارات فى مدينة 6 أكتوبر. الرجل فاق الستين عاماً، وتبدو عليه الشيخوخة، إلا أنه ما زال ناجحاً فى إبرام الصفقات، والحصول على العمولات، ولا يخجل من هذا، بل يقول: «لا أبحث عن اللاجئين، بل هم الذين يبحثون عني، لأساعدهم فى تدبير عمل يقيهم النوم فى الشارع والبحث عن فتات الطعام فى القمامة». ويكمل بفخر: «همّ اللى بيتحايلوا علىّ».
لا يرى الشيخ مجدى فى عمله أى شبهة قانونية، فـ«المفوضية لا تهتم باللاجئين، ولا تعطيهم أى شىء»، كما يرفض أن يصف نفسه بـ«السمسار»، لأنه لا يتقاضى عمولة، بل يقبل بالحصول على «الحلاوة» من صاحب العمل، والتى لا تتعدى 200 جنيه. كما أنه لا يرغم اللاجئ على دفع مبلغ من المال، لكنه «إذا وجد العمل مناسباً يعطينى مبلغاً ضئيلا كهدية».
يؤكد حامد أنه يقوم بتشغيل ذوى البنية الجسمانية القوية ليكونوا قادرين على العمل، وبعيدين عن احتمالات المرض، خاصة أن العمل شاق، مثل نقل السيراميك والعمل فى المزارع وأعمال العتالة والخدمة فى المنازل، حسب قوله، منوهاً إلى أن هناك سماسرة «لا يخافون الله ويشترطون الحصول على نسبة مالية شهرية من اللاجئ أو عائلته قبل تشغيله».

سرقة وسحل فى الطريق العام
عبد المنان، شاب أفريقى، يحكى أن رجلاً استأجره مع ثلاثة من أصحابه للعمل فى مصنع لـ«اللبان» فى منطقة متطرفة تابعة لمدينة السادس من أكتوبر، ووفر لهم غرفة صغيرة بجوار المصنع للعيش فيها، إلا أن بلطجية مصريين اعترضوا طريقه وسرقوا هاتفه، ولما جاء رفاقه للدفاع عنه مزقوهم بالأسلحة البيضاء وربطوهم وطعنوا أحدهم فى جنبه الأيمن، ثم سحلوهم فى الطريق أمام العامة، واستيقظ أهالى أكتوبر على مشهد مفجع للشباب الأربعة، ويكمل أنهم أبلغوا المفوضية، التى قامت بدورها بإبلاغ الشرطة، دون جدوى. كما أن صاحب المصنع تخلى عنهم.

أصحاب العمل: «هنمشيهم»
نادر عبدالله، صاحب ومدير مصنع ماربيلا للبان والشيكولاتة بمدينة السادس من أكتوير، يعمل لديه ما يزيد على 70 لاجئاً صومالياً وإثيوبياً وسودانياً، من المقيمين أمام مقر المفوضية بأكتوبر، ويؤكد لـ«الدستور»، أن رواتبهم تتراوح ما بين 1600 و1700 جنيه شهرياً، فى مقابل العمل لمدة 12 ساعة يومياً منها ساعة للراحة والغداء فقط.
يرد نادر على اتهام العمال الأفارقة له باستغلالهم وحرمانهم من حقوقهم، بأنهم لا يملكون أوراقا ثبوتية وجاءوا لمصر مُهربين، وأنه وافق على أن يعملوا لديه بدلاً من بحثهم عن الطعام فى قمامة الشوارع أمام المفوضية.
كما يرد على أن ساعات العمل لديه تتخطى المسموح بها قانوناً، بأنه لا يختلف عن الكثير من المصانع التى يعمل بها أفارقة. أما رواتبهم المتدنية فهى أفضل بالنسبة إليهم من النوم والأكل من الشارع، حسب تبريره.
نادر، يصف معظم اللاجئين بـ«اللصوص ومفتعلى المشاكل»، ويعيد سرد القصة التى حكاها عبد المنان عن سحله مع ثلاثة من رفاقه فى الشارع، بأنها كانت مشاجرة، أبلغ عنها قسم الشرطة، واصطحبوهم للقسم فى الثانية مساء، لكنهم تصالحوا مع غرمائهم. موضحاً أنه قام بفصلهم من العمل لأنه يجد صعوبة فى التعامل معهم، فهم «لا يتحدثون العربية، ويتشاجرون دائما مع العمال المصريين».
محمد ربيع، مدير العمال والمشرف على اللاجئين فى المصنع، قال لـ«الدستور»، إن إدارة المصنع لم تسع إلى جلب هؤلاء الأفارقة إلى العمل فى المصنع، بل هم من جاءوا عبر وسطاء، وهم من سعوا للعمل. مشيراً إلى أنه فى سبيل الاستغناء عن خدماتهم قريباً. موضحاً أن طبيعة العمل تتضمن الوقوف على ماكينات ووضع عجين اللبان والشيكولاتة من ناحية، واستخراجه جاهزاً من الناحية الأخرى. نافياً معاملتهم بشكل غير آدمى والاستيلاء على حقوقهم.

320 ألف لاجئ رسمى
بحسب مفوضية اللاجئين، فإن بمصر أكثر من 186 ألف لاجئ مُسجل فى سجلاتها، بينهم 131 ألف سورى، و6603 عراقيين، و8 آلاف أفريقى. أما وزارة الخارجية المصرية فتقدر أعدادهم بـ320 ألفاً من 60 دولة، غالبيتهم من السوريين والسودانيين والصوماليين. بينما ترفض المفوضية تسجيل الليبيين، بناء على توجيهات الحكومة المصرية.

الكاشف: مصر دولة لجوء
يقول محمد الكاشف، المسئول عن ملف الهجرة واللاجئين بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إن استغلال اللاجئين فى ظروف عمل غير مناسبة وشاقة دون حق، يعد اتجارًا بالبشر كما تعرفها مواثيق الأمم المتحدة والقانون الوطنى المصرى لمكافحة الاتجار بالبشر رقم 64 لسنة 2010، منوهاً إلى أن تلك المعاملة مرفوضة من الأساس، ولابد من وقفة جادة من قبل مفوضية شئون اللاجئين فى مصرUNHCR، خاصة أنها المسئولة عن توفير الحماية للاجئين وطالبى اللجوء، كما أن المنظمة الدولية للهجرة IOM يقع عليها عبء توعية المهاجرين بحقوقهم ومسئولياتهم والقوانين الخاصة بهم باعتبارها المنظمة الأممية المنوط بها مكافحة نشاط الاتجار بالبشر واستغلال المهاجرين.
ويرى الكاشف الدور الذى كان من المفترض على السلطات المصرية تقديمه لحل أو منع أزمة الاتجار أو استعباد الأفارقة، هو مراجعة التحفظات، مشيرًا إلى أن مصر تعد دولة لجوء ويقع على عاتقها التزامات دولية.

المفوضية ترد
واجهت «الدستور» مفوضية شئون اللاجئين بما يحدث من عمليات للاتجار بالأفارقة انطلاقاً من أمام مقرها، وكذلك روايات اللاجئين حول تحويلهم لمستشفى بهمان للأمراض العقلية، وردت بأنها ليست على علم بهذه الحالات، ولكنها ترحب بإحالتهم للتقييم. منوهة إلى أن العديد من العاملين الأفارقة فى مصر يعملون فى القطاع غير الرسمى، وليس من السهل الوصول إليه، لكنها لديها برنامج يسمى «الإعالة»، يهدف إلى التدريب المهنى لطالبى اللجوء واللاجئين لتمكينهم من اكتساب المهارات التى تساعدهم فى العثور على فرصة عمل، ويتضمن أيضاً سبل العيش والتدريب على العمل الذاتى، والتى تمكن الأفراد من فتح مشروع تجارى صغير لضمان تأمين لقمة العيش بشكل دائم، ولا تزال المفوضية على استعداد لتقديم المشورة والدعم النفسى، وإذا اقتضى الأمر، تقديم المساعدة القانونية.
وأضافت المفوضية فى ردها لـ«الدستور»، أنها تقدم المساعدة المالية للاجئين الأكثر ضعفاً، وعددهم أكثر من 31 ألف لاجئ سورى و8 آلاف أفريقى وطالبى اللجوء العراقيين واللاجئين، وذلك بالتنسق مع الحكومة المصرية.