رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اغتيال محفوظ.. تحت قبة البرلمان !


أبدًا.. لن تتوقف جرائم الاغتيالات بحجة الغيرة على الدين الحنيف، طالما ظلت هذه العقول المتحجرة تعيش بيننا، ويعضدهم سدنة التراث الملوث بكل الترهات المدسوسة بين ثناياه، ويجب العمل على تنقيته بأفكارالعلماء المستنيرين البعيدين عن تيارات الاتجاهات السياسية وصراعاتها، بمنأى عن جوهرالعقائد السماوية السمحة، ليكون الدين خالصًا لوجه الله تعالى  ولكن المدهش والجديد فى جرائم الاغتيالات الجسدية والمعنوية التى تشهدها الساحة المصرية، هى الفوارق العلمية الشاسعة فى شخصية القائمين على عمليات الاغتيال، كما حدث مؤخرًا ـ تحت قبة البرلمان ـ فى إعادة الاغتيال المعنوى للمفكر والأديب الراحل نجيب محفوظ، بعد محاولة ذبحه الفاشلة قبل وفاته، وهو العربى الأول الحاصل على جائزة نوبل فى الأدب. ففى الوقت الذى اغتيل فيه «شهيد الكلمة د.فرج فودة» فى العام 1992 على يد «بائع سمك» أمِّى لايقرأ ولا يكتُب، بفتوى من جماعته التى ينتمى إليها استباحت فيها دمه لكونه علمانيا متطرفا، وحين سئِل عن معنى «العلمانية» لم يحْرجوابًا دلالة على الجهل والانسياق وراء التحريض. نجد أن من قام بجريمة الاغتيال المعنوى لمن أصبح فى ذمة الله، يحمل دكتوراه القانون الجنائى فى موضوع «الحماية الجنائية للديمقراطية»! ولنا أن نضع المئات من علامات التعجب.. فأى حماية مزعومة لتلك «الديمقراطية»؟ وكيف يجرؤ نائب البرلمان بعد رحيل أديبنا الكبير بأكثر من عشرسنوات أن يقول: إن كاتبنا الراحل يستحق العقاب لو حركت دعوى قضائية ضده، لأن أعماله الروائية مثل قصرالشوق والسكرية خادشة للحياء !

وهل على هذا القياس الخاطىء لمفهوم خدش الحياء من وجهة نظر المهاجمين والمعترضين لمجرد الاعتراض وإثارة البلبلة.. أيحق لنا ـ حاشا لله ـ أن نطعن فى آيات القرآن الكريم ونعدها خادشة للحياء؟ فقد وردت فى ثناياه العطِرة قصة حُب “زليخاه” امرأة عزيز مصرلنبى الله يوسف عليه السلام، فهى قصة درامية مليئة بالأحداث المثيرة، فقد ورد فى تفسير القرآن أن امرأة عزيز مصر الذى اشترى نبى الله يوسف بعد أن ألقاه إخوته فى البئر، أن امرأة العزيز راودته عن نفسه فاستعصم، وصوَّر القرآن الكريم هذا المشهد الرائع حيث قال : بسم الله الرحمن الرحيم «وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ» صدق الله العظيم ـ يوسف 23.. فهل كان قرآننا العظيم يهدف إلى خدش الحياء بمنطق أدعياء هذا الزمن؟ وهل لهؤلاء أن يطالبوا بإحراق الغالبية العظمى من كتب التراث الإسلامى التى تناولت مايعدونه خدشًا للحياء، ومحاكمة أصحابها بعد كل تلك القرون المنصرمة؟ أم أنهم أسدٌ علينا وفى الحروب نعامة ٌ؟

وفى الحقيقة لم أكن أود الجنوح إلى الاستشهاد بآيات القرآن فى هذه الأحداث خشية التفسير الخاطىء من البعض، لكننى أردت إيضاح الصورة لمن يهمه الأمر، والتدليل بأن النص القرآنى مجَّدَ أصحاب الفكر والعقل بقوله:«ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ.. إلخ».. فهل بعد هذا تكريم وتبجيل للعلم والعلماء أصحاب القلم؟

ونعود للوقائع والأحداث الموَّارة على الساحة المصرية، فهل حقًا هذا ما نريده من ممثلى الشعب، وهل دورهم أن يكونوا صانعين لمناخات التطرف والإرهاب الفكرى والدعوة لعودة محاكم التفتيش، وأن ينصِّبوا أنفسهم أوصياء على ضمائر المبدعين، برغم عدم إلمامهم بالإبداع أو النقد الأدبى وضوابطه! وللأسف فإنهم بهذه المفاهيم أصبحوا عالة وعبئًا ثقيلاً على كاهل المجتمع والوطن، ومعول هدم للضمير الثقافى والإبداعى الخلاق، ويجب أن يعلم الجميع أن المنتَج الأدبى والفنى لا تنطبق عليه قوانين الواقع. ولنا أن نتساءل: هل هؤلاء النواب لم يقرأوا مواد الدستور المصرى الذى أعطى كل الضمانات والحصانة للإبداع والمبدعين فى كل المجالات، فالمادة 67 تقول: «حرية الإبداع الفنى والأدبى مكفولة، وتلتزم الدولة بالنهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك، ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى... إلخ”».

وهذه ليست المرة الأولى ـ ولن تكون الأخيرة ـ التى تثورفيها ثائرة الظلاميين ضد الأدب والإبداع، فقد حُظر فى الماضى كتاب «ألف ليلة وليلة»، كما حُرقت بعض كتب القرطبى وابن رشد ، وكذلك كتب عميد الأدب العربى طه حسين فى الشعر الجاهلى، وصودر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق الذى نفى فيه أن يكون الإسلام دينا ودولة، وبإحدى هذه الفتاوى الغادرة من خوارج كل عصر، ذهب «الحلاج» مقطوع الأطراف من خلافٍ إلى المقصلة. إننا ننتظرإعادة رد الاعتبار إلى أديبنا العملاق نجيب محفوظ، لامتصاص حالة الاستياء الشعبى الكارهة لمحاولة ذبحه من جديد، بعدما فارق الحياة وفقد القدرة على أن يشهر قلمه البتارسيفًا يرد به الأذى عن نفسه، ويرشق فى صدر هؤلاء الخوارج بدل الطعنة.. طعنات! ولن يتأتى هذا إلا بإقامة احتفالية كبرى لعرض ومناقشة أعماله دفاعًا عن نجيب محفوظ الإنسان والمبدع.