رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القروض من باب.. المضطر يركب الصعاب!


يشير مفهوم التمويل الدولى إلى انتقال رءوس الأموال بجميع أشكالها بين دول العالم المختلفة لسد الفجوة الاقتصادية، وقد تشترط الدول المانحة إعطاء تلك القروض على شكل مواد ومستلزمات إنتاج، علاوة على استقطاع مرتبات ومكافآت أفراد الرقابة المالية من خبراء يتبعون الصندوق المانح

ميراث الحقبة السياسية البائدة، والتى قامت على مدى أعوام عديدة، بتجريف الأخضر واليابس على أرضنا المحروسة، وقامت بتصفية القطاع العام الذى كان يُعد العمود الفِقرى لجسد الدولة المصرية، واللجوء إلى تطبيق ماأطلق عليه نظام «الخصخصة» والعودة إلى الرأسمالية وليتها رأسمالية وطنية بحق لتعيد إلى المجتمع هيمنة وسيطرة أصحاب المال والنفوذ إلى صدارة المشهد، أعقبتها 367 ليلة سوداء فى تاريخ الأمة المصرية، لم ترها منذ عصور الفراعين والأقدمين، تلك الليالى السوداء التى أجهزت على البقية الباقية فى «حصالة الوطن» و«شفطت من الضرع اللبنات» التى كانت ستقيم أود الوطن لحين استعادة قواه!! ولكننا رأينا العجب العجاب فى تلك الليالى السوداء وممن قفزوا إلى سدة السلطة فى غفلة من الزمان والمكان، فكانوا أشبه بـعصابة «القرود» التى عثرت على شجرة «موز» بعد التيه فى صحارى الجوع الضارى والحلم بالسلطة، فانهالوا عليها بنهمٍ غبى، حتى أكلوا ثمارها وجذوعها وفروعها .. بل وجذورها أيضًا!!

وحال الدولة مثلها مثل حال الأفراد تمامًا، إذا زادت ضغوط المتطلبات الحياتية ورجحت كفة المصروفات على كفة الإيرادات، فإنها تلجأ إلى أمرين كلاهما «مُر» : التقشف أو الاقتراض كى يستقيم الميزان! ولكن الضغوط على الدولة أشد قسوة، لوجود المصانع والمشروعات العملاقة التى تحتاج إلى التمويل المستمر لمواجهة متطلبات الحصول على المستلزمات السلعية والخدمية، لتدعيم برامج وخطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولضمان دوران عجلة الإنتاج بالمعدلات الطبيعية التى تضمن على الأقل الحد الأدنى للتشغيل، والحصول على العائدات التى تضمن مرتبات جيوش العمالة فى المصالح والوزارات السيادية أو شركات القطاع الخاص والصناعات الصغيرة .

ففى حالة الأفراد فإنهم قد يلجأون إلى الاقتراض السريع من الأصدقاء أو من الأهل ميسورى الحال، أو باللجوء إلى مبدأ التكافل المجتمعى المعمول به كعرف فى المجتمعات الفقيرة، وذلك بتكوين مجموعة تسمى «جمعية»، تزيد وتقل بحسب الحاجة إلى المبالغ المطلوبة لسرعة سد العجز ورتق الثوب، ويحصل كل فرد على «الحصيلة» شهريًا بالتناوب، حتى نهاية الفترة المحددة! وتلك «الجمعية» المنعقدة بكلمة الشرف، لا تهدف إلى ربح أو فائدة، بل ربحها هو حُب التكافل والتضامن بين الناس وتقوية الروابط الاجتماعية الصادقة.

أما فى حال الدول فحدِّث ولا حرج فإنها تلجأ إلى كهوف الصناديق الدولية التى ما أنزل الله بها من سلطان، ومن باب «المضطر يركب الصعاب»، حيث الاستغلال والتحكم فى مصائر الشعوب التى لاتدور فى أفلاك مجراتهم الكونية، وتضع الشروط المجحفة فى سبيل منح تلك القروض، التى تحمل فوق كاهلها قبل منحها الفوائد التى تفوق حجم الدين الأصلى فى معظم الأحايين، علاوة على ماقد تشترطه من وجود عناصر المراقبة المالية والعسكرية أحيانًا بحجة الضمان لسداد الأقساط فى المواعيد المقترحة والمجدولة سلفًا، وبصرف النظر عن العوائد بالكسب أو بالخسارة، والتى تقبلها الدول لحاجتها الماسة إلى تلك الأموال التى قد تصلح اعوجاج كفة الموازين.

ويشير مفهوم التمويل الدولى إلى انتقال رءوس الأموال بجميع أشكالها بين دول العالم المختلفة لسد الفجوة الاقتصادية، وقد تشترط الدول المانحة إعطاء تلك القروض على شكل مواد ومستلزمات إنتاج، علاوة على استقطاع مرتبات ومكافآت أفراد الرقابة المالية من خبراء يتبعون الصندوق المانح، الأمر الذى يترتب عليه خسارة جزء لا بأس به من قيمة القرض. ناهيك عن السيطرة والتحكم فى كيفية الصرف، مع مافيه من إنقاص للسيادة على موارد الدولة المُقترضة.

وعلينا ألا نغفل أو نتغافل عن الجانب الأخطر والمهم فى المسألة برمتها، وهو تحقيق الانفراجة للأجيال المعاصرة لمدة القرض، والاستمتاع ببعض الرفاهية المرجوة مؤقتًا، ثم نفيق من هذا الحلم الوردى على حقيقة صادمة تتحملها الأجيال التالية، التى تقوم بسداد الأعباء المالية المترتبة على القرض والفوائد المركبة التى تفرضها الدول عند السداد، لنعود مرة أخرى للدوران فى الحلقة المفرغة نفسها، التى قد تنتهى بالاحتلال الكامل لمقدرات ومصادر الدول الفقيرة اقتصاديًا وفكريًا .. بل عسكريًا أيضًا.

ولكى نتفادى هذه المآزق الاقتصادية الصارخة، نجد أن الحل يكمن فى إعادة هدير الماكينات والأضواء إلى المصانع، حتى تعلو سحب المداخن العملاقة فى السماء، وعودة من تم تسريحهم من جيوش العمالة والخبراء إلى مكانهم الطبيعى فى طليعة كتائب الإنتاج الذى يعم بالخير والرفاهية على جموع الشعب العامل، مصداقًا لمقولة جبران خليل جبران: «ويلٌ لأمة تلبس مما لا تنسج,وتأكل مما لا تزرع , وتشرب مما لا تعصر» ! و» ... أن تعلمنى كيف أصطاد السمك، خيرٌ من أن تعطينى كل يوم سمكة»!.

تلك هى الحكمة من دعوتى الجادة إلى ضرورة الابتعاد عن طريق الاستدانة بالقروض المجحفة، ليتحقق لمصرنا الحبيبة حرية امتلاك السيادة والريادة فى كل مجالات العمل القائم على العلم والعلماء، وبالمصانع التى تنتج الخير والرخاء والرفاهية لكل الشرفاء الصادقين فى حب الوطن والمؤمنين بمقدراته وتاريخه العريق، حيث يسعى للوصول إلى الآفاق المشرقة للحياة الأفضل والأجمل، بعيدًا عن المخاطرة بركوب الصعاب وبعيداً عن إثقال كاهل الأجيال القادمة بتركة كبيرة تعوقهم وهم يستلمون راية الوطن.

■ أستاذ العلوم اللغوية أكاديمية الفنون