رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلسفة الصيـام.. والصوم!


هناك آراء تعتقد بوجود أسباب أخرى وراء لجوء إنسان الحضارات القديمة إلى الصيام، إذ ساد الاعتقاد قديمًا بأن الامتناع عن تناول الطعام والشراب يساعد الإنسان على الوصول إلى حالة من الشفافية الروحية، تسمح له بالاتصال بالمعبودات وعالم الأرواح

هل توقفنا لحظات ـ ولو أمام المرآة ـ لنسأل أنفسنا: لماذا نصوم؟ المفروض أن يطرح كل إنسان على نفسه هذا السؤال، والأهم هو أن يمارس عادة الصيام؛ ويختبر معناه ليكتشف فائدته وأبعاده النفسية والروحية، فإن لم يصُم فإنه لن يكتشف حقيقته ولا مغزاه؛ ولو قرأ عشرات الكتب والمراجع عنه. ففى الأساطير اليونانية تأتى ترجمة كلمة «صوم» بمعنيين: الأول بمعنى «إمساك»والثانية بمعنى «الانضباط السلوكى»؛ وهو المعنى الأدق الذى يتم تفسيره بضبط النفس والعفة والتعفف، وفيها يمارس الإنسان بكل الطواعية فعل الحرمان من شهوات النفس إلى الطعام والشراب.. والجسد !

ولكن.. مامعنى الصوم ؟ فكثير من الكلمات نمر عليها دون إدراك لأصولها اللغوية؛ ومنها كلمة الصيام؛ فالصيام فى أصله اللغوى هو الصوم عن الكلام عندما نذرت «العذراء مريم» أن تصوم للرحمن: «إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا»؛ وهو أصعب بما لا يقارن من الصيام عن الطعام والشراب. وأدعوكم إلى التأمل فى بداية الآية حين خاطب المولى العذراء مريم بقوله: «فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا» ! إذن لم تكن الدعوة للصيام عن المأكل والمشرب، بل الالتزام بـ «الصوم» عن الكلام حتى لاتضطر إلى الرد على اتهامات قومها الباطلة بالجارح من الكلمات للدفاع عن عذريتها؛ ولثقتها فى طهارتها ونقائها. وهذا يرشدنا إلى المعنى الأمثل للصيام، فهو الابتعاد عن الموبقات التى قد يقترفها اللسان فى الحياة اليومية من انفعالات فى البيع والشراء، ناهيك عن ساحة المعارك السياسية وما تلوكه الألسنة من أكاذيب مع أو ضد من يختلفون أو يتفقون معهم فى التوجهات والأغراض الحزبية، وهى البعيدة كل البعد عن المغزى السامى الذى فرضه الله على عباده، فالصوم هو السلوكيات السويَّة البعيدة عن الكذب والنفاق، بل هى تنعكس ضد الفرد ذاته وتنتقص من احترامه لنفسه.

إن «فلسفة الصيام» لها رجع الصدى فى النفوس، فالنقاء فى الأنفس يعمل على ترميم الجسد بإراحة المعدة وتجديد خلاياها، والأهم هو صيانة اللسان من استعمال الألفاظ الخارجة عن المألوف، ولم يقل أهل الطب والصحة النفسية من فراغ مقولة «صوموا..تصحُّوا» ! وحتى يتحقق ذلك يشرح على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه - فلسفة الصيام فيقول: «صوم القلب خيرٌ من صياماللسان، وصوم اللسان خيرٌ من صيام البطن»، وتلك هى فلسفة العارفين، وتأتى فى كلمات بسيطة صادقة وموحية بالدلالات التى تُبتغى من الصوم، فهو تربية للنفس بالبعد عن الشهوات فى نهار رمضان، ليس فقط المحرمة بل الحلال أيضَا.

وللصيام فى التاريخ الإنسانى عبرة وعظة، فالصوم كان دائمًا شريعة الأنبياء والمجاهدين وأصحاب المباديء الرفيعة، وكان التقشف والصيام أسلوب «المهاتما غاندي» فى نضاله المدنى ضد الاحتلال الإنجليزي، ففى الصوم تتدفق الحكمة من القلب على اللسان، والدليل الأكبرهو تنزيل القرآن الكريم فى شهر رمضان. وكانت الأديان السماوية تتفق تمامًا ومنطوق تلك الحكمة الرائعة فى مضامين الصيام والصوم الحقيقي، وهى البُعد عنه المظهريات ومحاولات تصنع العبوس؛ للإيحاء بأن صاحب الوجه المتجهم من الصائمين، فنجد نفس المعانى فى شتى الديانات؛ وأقرت بها الكتب السماوية المقدسة، فنقرأ فى «إنجيل متى» بالإصحاح السادس، الآية 16: «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ...»، أى أن الصيام يحتاج إلى الترفع عن السلوكيات التى يستنكفها المجتمع. كذلك نجد الصوم فى الديانة اليهودية؛ فيقال إن «سيدنا موسى عليه السلام»؛ صام أربعين يوما عندما صعد إلى جبل سيناء ليكلمه الله، وبحسب ما جاء فى سفر اللاويين ـ وهو ثالث كتب التوراة ـ فقد فرض على بنى إسرائيل صيام يوم واحد، وهو المعروف باسم «يوم كيبور» أو «يوم الغفران».

والعجيب والغريب أيضًا، أن المصلحين الاجتماعيين وأصحاب المذاهب الوضعية؛ لم يخرجوا عن هذا الإطار فى التعاليم التى أقرها المولى سبحانه وتعالى، فقد ظهر مايسمى بـ «الديانة الكونفوشيوسية»؛ صاغها «كونفوشيوس» فى القرن السادس قبل الميلاد، واستن ضمن تلك التعاليم» طقس الصوم الكونفوشيوسي» الذى يقوم على أساس «وجبة واحدة تكفي»، حيث يتبعون عبادة إله السماء، والصيام يكون بتناول الطعام والشراب قبل مواعيد الصلاة فقط، بينما يكتفى الكهنة والرهبان بتناول وجبة واحدة فى عصر يومى ظهور الهلال ويوم اكتمال القمر!

وهناك آراء تعتقد بوجود أسباب أخرى وراء لجوء إنسان الحضارات القديمة إلى الصيام، إذ ساد الاعتقاد قديمًا بأن الامتناع عن تناول الطعام والشراب يساعد الإنسان على الوصول إلى حالة من الشفافية الروحية، تسمح له بالاتصال بالمعبودات وعالم الأرواح. فكان الناس يخرجون إلى الأماكن الصحراوية والجبال العالية، ويمكثون هناك فترة طويلة فى حالة من التأمل وهم صائمون ثم ينامون، فتأتى لهم الرؤية فى الأحلام لتصلهم بالعالم الروحى أو تنبئهم بما سيحدث فى مستقبل الأيام. وهو عِتْقُ النَّفسِ الإنسانية، من رِقّ الحياة ومطالبها، ومن الأبدان وحاجاتها، ومن العقول ونوازعها، ومن النفوس وشهواتها، ومن رِقِّ المخاوف حاضرها وغائبها. حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، والإرادة، والعمل؛ فتحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذى كُتِبَ عليها فرضًا، وتأتيه طَوْعًا-فى دندنة للشيخ «محمود محمد شاكر».

فصـوموا «صـوماً» و«صـياماً» لتعمّ الفائـدة.

■ أستاذ العلوم اللغوية ـ أكاديمية الفنون