رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ماهية النُخبة!


لفت انتباهى بشدَّة واحدة من أعاجيب اللغة العربية الرائعة، وكيف تطيح علامات التشكيل بدلالات الألفاظ، وتؤدى بها إلى معانٍ لا يمكن تصوُّرها؛ وربما أبعد مما نتخيل، لكنها اللغة بكل جمالها ودلالها ودلالاتها كما نطق بها العرب الأوائل، فوجدت أن كلمة «النُّخبة» بضم وتشديد النون؛ تعطى معنى: المُختار من كل شىء، و«نُخبة المجتمع» هم المختارون من الذين لهم مؤهلات وصفات معينة...

... فماذا لو كانت «النون» بالتشديد مع الفتح؛ أى تُنطق هكذا «النَّخبة»؟ فإنها تكون بمعنى: الجبان!! ولعل هذا ما استوقفنى لأكتب عن ماهية «النُّخبة» وعن دورها المفترض أنه الدور الفاعل والمؤثر إيجابيًا فى مجريات أمور المجتمع، ويكونون هُم قادة الرأى العام ويشكلون اتجاهاته وتوجهاته. خاصة أن البعض يفضل التعامل بما يقال عنه :سياسة النُّخبة.. أى سياسة الانتقاء والتفضيل ليتقدموا الصفوف؛ وليكونوا بمثابة قاطرة الأمم إلى آفاق التقدم، ولكنى فى الحقيقة ـ اكتشفت أنه لايمكننى الحديث عن النخبة إلا فى داخل أحد فروع النشاط: «لنضع إذن طبقة من الذين يتمتعون بالمؤشرات الأكثر ارتفاعاً فى الفرع الذى يؤدون فيه نشاطهم ولنعط لهذه الطبقة اسم النخبة». ثمة إذن عدد من النخب بقدر ما يكون لدينا من فروع للنشاطات، وتدعى النخبة التى تمارس نفوذًا فى أى مجموعة بنخبة المجموعة «النخبة الاجتماعية، النخبة الدينية، النخبة السياسية، النخبة الفنية الإبداعية....»، وحبذا لو استطاع هؤلاء بكل الجدية وإنكار الذات ونبذ منطق «الأنا» وحب القيادة، أن يصنعوا «ضفيرة» مجدولة من كل عناصر النُّخب المنتقاة، لسعدت بهم مجتمعاتهم ووصلوا بهم إلى واحات الرفاهية.

كانت النخبة التى عاصرتها أجيال الستينيات والسبعينسات من القرن الماضى، ضفيرة مجدولة رائعة من العمالقة فى الأدب، والشعر، والموسيقى، والمسرح، والسينما، وأساتذة الجامعات فى جميع التخصصات، والكوادر العمالية فى المصانع، وفلاحى الأرض الطيبة، ورواد الحركة الطلابية فى جميع مراحل التعليم، ومنظمات المجتمع المدني، وكان الجميع كأنه فرقة من الأوركسترا التى تعزف فى «هارمونى» رائع لايقبل النشاز؛ وكأنها تكتب «نوتة» لحن الإبداع للمستقبل المشرق. فاستنارت القرى والنجوع بأنوار قصور الثقافة، والمكتبات العامة،والمستشفيات، والجمعيات الزراعية، وبنوك التسليف الزراعى، وظهرت إلى الوجود قلعة الحديد والصلب المصرية فى حلوان، وشركة النصر للسيارات، والمصانع الحربية التى آمن من قام بإنشائها بأن من لايملك سلاحه وعتاده، ستظل رقبته فى يد «الحداد» الذى يصنع هذا السلاح!. ومن هذا المنطلق الوطنى الجاد، أصبحت مصرنا المحروسة زعيمة كتلة دول عدم الانحياز، ورائدة تحرير الدول الأفريقية والآسيوية من ربقة الاستعمار الذى جثم على الصدور مئات الأعوام، وظهرت فى تلك الحقبة الرائعة؛ المئات من نماذج التحرر العالمى، بداية من المناضلة الجزائرية «جميلة بوحريد» و«لومومبا» و«جيفارا»؛ إلى آخر القائمة العريضة التى يزخر بها التاريخ ويفخر. أما عن علاقة هذا بالنخبة المصرية بثقة نقول إن مصر تصنع الريادة والقيادة؛ وتفتح الطريق الوعر لكل السائرين على درب الحرية والعدل والمساواة، وهى النموذج الأمثل منذ عصر «مينا» و«رمسيس» و«أحمس»، حتى وقتنا هذا حيث تنشد عودة النخبة الوطنية الحقيقية إلى الساحة السياسية المصرية.

لكننا الآن للأسف لا نرى أى ملامح من تلك النخبة العظيمة التى صنعت أمجاد الماضى القريب، فما نشاهده على الشاشات الفضية؛ ونسمعه من خلف الميكروفونات الإذاعية مجرد هرطقات هلامية؛ لا ترتقى إلى مستوى «الفعل الجاد»، ولكنها فقط لملء ساعات من البث الحنجورى الذى لا يُسمن ولا يُشبع من جوع، لأنه من الثابت تاريخيًا ـ بالتعبير المحاسبى أن معدل دوران أفراد النخبة وتجديدها بطيئان ومحدودان للغاية، فهى نخب كما أطلق عليها الشاعر الراحل الأبنودى قوله: آن الأوان ترحلى يادولة العواجيز!، فهى لاتحمل الجديد من الأفكار التجديدية الحقيقية، ولم يخضع الكثير منهم لرياح التغيير التى عصفت بالوطن العربى فيما يسمى بـ«ثورات الربيع العربى»، فالثورة كشفت الغطاء عن عقم الأفكار والتوجهات لهذه النخبة الهشة؛ وأثبتت الأيام والأحداث أنها تعمل بمنطق «التاجر» وتطلعات «رجال الأعمال» الذين لاهم لهم سوى الربح، حتى لو أتى هذا الربح على حساب المواطن.. والوطن.

والحل.. أنه لامناص من عودة الدولة سريعًا إلى تنامى دورها الفاعل، وتقليص دور الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية، لكسر احتكار رأس المال الذى يعمل على «ابتداع» قنوات تليفزيونية وشبكات عنكبوتية، تتحكم فى توجيه وتشكيل الرأى العام بما يخدم مصالحه، دون الوضع فى الاعتبار المصلحة العامة وصنع المستقبل. العودة ضرورة لمؤسسات المجتمع المدنى خاصة المراكز البحثية الخاصة؛ التى تسمح بتنامى أدوار المثقفين المستقلين والقادرين على إنتاج وترويج الأفكار فى كل الاتجاهات القومية أو الدينية أو الليبرالية، دون خوف من أى انحرافات لأن الأرضية الشعبية ستكون حينئذٍ قادرة على التمييز بين الغث والثمين لصالح رقى المجتمع وتوجهات الدولة. شاركونى التمنى فى أن تعود النُّخبة الجادة الحقيقية إلى الظهور على الساحة؟